رمضان كريم.. وفيه يجوز الصوم ولو قليلاً عن وجع دماغ السياسة، واتخاذ القول الشهير للإمام عبده «لعن الله ساس ويسوس وما اشتق منهما» قاعدة!
حديثى هذه المرة أستكمل به سطور المقال الفائت، وهى سطور ظننتها عشوائية تقفز هنا وهناك، ولكن تعليقا على «الفيس بوك» تلقيته من الصديق الأستاذ محمد حماد، خيب ظنى فى سطورى، إذ كتب الأستاذ حماد معلقا على تلك السطور: «أستاذ ورئيس قسم الكتابة بالغمر فى مواجهة الكتابة بالتنقيط التى لا تغنى ولا تسمن من جوع وأحيانا تجيب النقطة للقراء..»!
وهاأنذا أكرر شكرى للصديق العزيز محمد حماد المفكر والكاتب المستغنى، ولكل السادة الذين يتابعون ما أكتب ويعلقون عليه، أعود لمكتبتى القديمة فى رمضان، وأعيد مطالعة ما كان يمسك بتلابيب نافوخى من كتب كان وسيبقى فى مقدمتها كتب التاريخ وموسوعات الفن ومصادر الأدب واللغة.. وكثيرا ما أعيد قراءة الكتاب النفيس، الذى عنوانه «فقه اللغة وسر العربية، لأبى منصور الثعالبى، الذى هو عبدالملك بن محمد بن إسماعيل أبومنصور الثعالبى النيسابورى، لقب بالثعالبى، لأنه كان فرّاء يخيط جلود الثعالب ويعملها.. عاش فى نيسابور، وخلى بالكم من نيسابور، يعنى ليس فى مكة ولا المدينة ولا بغداد ولا دمشق ولا القاهرة.. ومع ذلك كتب حوالى ثمانين كتابا خلال عمره الذى ناهز الثمانين.. عقبال عندنا وعندكم!.. ولو كتبت عناوين كتبه وكلمتين عن كل منها لانتهت مساحة المقال.. وكان شاعرا، ويروى أن الثعالبى قال: «قال لى سهل بن المرزبان يوما: إن من الشعراء من شلشل، ومنهم من سلسل، ومنهم من قلقل، ومنهم من بلبل يريد بمن شلشل الأعشى فى قوله:
وقد أروح إلى الحانوت يتبعنى
شاو مشل شلول شلشل شول
وبمن سلسل: مسلم بن الوليد فى قوله:
سلّت وسلّت ثم سل سليلها
فأتى سليل سليلها مسلولا
وبمن قلقل: المتنبى فى قوله:
فقلقت بالهمّ الذى قلقل الحشا
قلاقل عيس كلهن قلاقل
فقال الثعالبى: إنى أخاف أن أكون رابع الشعراء
وأراد قول الشاعر:
الشعراء فاعلمن أربعة
فشاعر يجرى ولا يجرى معه
وشاعر من حقه أن ترفعه
وشاعر من حقه أن تسمعه
وشاعر من حقه أن تصفعه
ثم إنى قلت بعد ذلك بحين:
وإذا البلابل أفسحت بلغاتها
فانف البلابل باحتساء بلابل
المهم أن كتاب فقه اللغة قام بتحقيقه كل من الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الإبيارى وعبدالحفيظ شلبى، وربما يأتى وقت أكتب فيه عن جيل عملاق عظيم من المحققين والمترجمين والمعربين الأعلام، الذين ساهموا فى رفعة وطننا، ولا أنسى منهم فى هذا المقام الأستاذ الموقر أحمد نجيب هاشم، والأستاذ الموقر وديع الضبع رحمهما الله رحمة واسعة، ويقع الكتاب فى ثلاثين بابا، تتضمن ستمائة فصل، ولعل المقدمة التى كتبها المؤلف لا تقل أهمية عن متنه بأبوابه وفصوله.
ومنها أنقل: «من أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربى أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، التى بها نزل أفضل الكتب على أفضل العرب والعجم، ومن أحب العربية عنى بها وثابر عليها وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هى أداة العلم ومفتاح التفقه فى الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هى لإحراز الفضائل والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للنار، ولو لم يكن فى الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر فى جلائها ودقائقها إلا قوة اليقين فى معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة فى إثبات النبوة، التى هى عمدة الإيمان لكفى بهما فضلا يحسن فيهما أثره، ويطيب فى الدارين ثمره، فكيف وأيسر ما خصها الله عز وجل به من ضروب الممادح، وأنفقوا على تخليد كتبها أعمارهم فعظمت الفائدة، وعمت المصلحة وتوافرت العائدة، وكلما بدت معارفها تتنكر أو كادت معالمها تتستر.
يكل أقلام الكتبة وتتعب أنامل الحسبة، ولما شرفها الله تعالى عز اسمه وعظمها وكرمها ورفع خطرها وكرمها، وأوحى بها إلى خير خلقه وجعل لسان أمينه على وحيه وخلفائه فى أرضه، وأراد بقاءها ودوامها حتى تكون فى هذه العاجلة لخيار عباده، وفى الآجلة لساكنى جنانه ودار ثوابه، قيض لها حفظة وخزنة من خواصه من خيار الناس وأعيان الفضل وأنجم الأرض، تركوا فى خدمتها الشهوات وجابوا الفلوات ونادموا لاقتنائها الدفاتر وسامروا القماطى والمحابر وكدوا فى حصر لغاتها طباعهم، وأشهروا فى تقييد شواردها أجفانهم، وأجالوا فى نظم قلائدها أفكارهم، وأنفقوا على تخليد كتبها أعمارهم فعظمت الفائدة وعمت المصلحة وتوافرت العائدة، وكلما بدت معارفها تتنكر أو كادت معالمها تتستر أو عرض لها ما يشبه الفترة رد الله تعالى لها الكرة فأهب ريحها ونفق سوقها بفرد من أفراد الدهر، أديب ذى صدر رحيب وقريحة ثاقبة ودراية صائبة ونفس سامية، وهمة عالية يحب الأدب ويتعصب للعربية فيجمع شملها ويكرم أهلها ويحرك الخواطر الساكنة لإعادة رونقها ويستثير المحاسن الكامنة فى صدور المتحلين بها، ويستدعى التأليفات البارعة فى تجديد ما عفا من رسوم طرائفها ولطائفها مثل الأمير السيد الأوحد أبى الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالى أدام الله بهجته، وأين مثله وأصله أصله وفضله فضله».
المقدمة طويلة غير أننى أتوقف عند أمرين أشرت من قبل لأولهما، وهو ذلك الذى يخيط فراء الثعالب فى نيسابور ويكون همه الأول هو اللغة العربية، وثانيهما هو أمير تلك البلاد «عبيد الله بن أحمد الميكالى»، المتعصب للعربية وجامع شملها ومكرم أهلها ومحرك الخواطر الساكنة لإعادة رونقها!! وأقارن بينه وبين أصحاب السلطة والمال فى الكثير من بلاد العرب.. وما أصعب المقارنة بين الثريا وبين الثرى.
ولنا وقفة مقبلة مع عينات من فقه اللغة وسر العربية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة