ليست مجرد قصة..
فى الكتب الشعبية القديمة حكاية تقول بأن رجلا كان يعيش فى قرية صغيرة ويربى دجاجا، وبين الحين والآخر يكتشف أنه تعرض لسرقة دجاجة أو اثنتين، ذهب الرجل إلى شيخ المسجد واشتكى له قائلا: «أهل القرية عددهم قليل أعرفهم جميعا ولا أستطيع أن اتهم فلانا أو فلانا»، رد الشيخ: «لا تقلق عندى طريقة لكشف السارق».
فى اليوم التالى اجتمع الناس للصلاة وبدأ الشيخ يتحدث عن الأمانة وجزاء السارق ثم ختم حديثه قائلا: «وتخيلوا من وقاحة السارق أنه يكون جالسا بيننا وقد نسى إزالة الريش عن رأسه، فقام الفاعل مباشره بمسح رأسه».
انتهت القصة ولكن لم ينته مغزاها.
المواطن المصرى عبقرى، سمع الحدوتة السابقة وهضمها، وأعاد تقديمها للعالم مرة أخرى فى صورة حكمة شعبية تقول: «اللى على راسه بطحة يحسس عليها»، لتصبح مثلا عميق المعنى نستخدمه كلما أردنا أن نصف صاحب الفعل السيئ حينما يرتبك ويكشف نفسه بنفسه إذا مر أحدهم على ذكر فعلته القبيحة مرور الكرام.
المثل مصرى، ويستخدمه المصريون فى اليوم الواحد آلاف المرات، ومع ذلك لم تستوعبه الدولة وقامت بمنع دخول وفد منظمة هيومان رايتس ووتش إلى مصر من أجل عرض تقرير المنظمة الحقوقية عن أحداث فض رابعة.
تصرفت الدولة مثل اللص الذى ارتبك بمجرد أن ذكر له الشيخ أن ريش الدجاج فوق رأس السارق، فقرر أن يتطوع ويمسح على رأسه ليخبر الجميع أنه السارق، منعت الحكومة الوفد من دخول مصر، وكأن هذا الوطن على رأسه بطحة يخشى أن يكشفها تقرير حقوقى يستطيع أصغر عضو فى الحكومة أن يناقشه ويعيد تفنيده والرد عليه.. ولكن أحدا فى الدولة لم يفعل ورفعوا شعار: «الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح»، ولم يدرك أحد أن باب الريح هذا أصبح أربعة أبواب تمرر ريحا عاتية ضد الدولة المصرية من بيروت وجنيف ونيويورك البلدان الثلاثة التى قررت «هيومان رايتس ووتش» أن تستعرض التقرير داخلها فى توقيت متزامن، بالإضافة إلى الباب الرابع الذى نسمع منه الآن صوت رياح الإعلام الغربى وهى تقول إن مصر تمنع المنظمات الحقوقية من دخول أراضيها، إن مصر تقمع الحريات، إن مصر تخشى من تقريرا يفضحها.
«العيار اللى ميصبش يدوش»، ومع ذلك تطوعنا نحن فى مصر بإطلاقه وكأننا نملك وقت فراغ للدخول فى معارك من هذا النوع مع الإعلام الغربى والمنظمات الدولية، حولنا تقريرا يمكن هدمه والتشكيك فى معلوماته بالأدلة والحوار إلى عيار طائش لن يصيب مصر ولن يضرها، ولكنه سيخلق حولها «دوشة» لسنا فى حاجة إليها الآن.
اللواء أبوبكر عبدالكريم، مساعد وزير الداخلية لشؤون حقوق الإنسان، اختار الأسلوب القديم وهاجم تقرير «هيومان رايتس ووتش»، وقال بأنه مسيس ويفتقد للمهنية ومصادره غير معلومة وغير رسمية، وكل هذا اليقين الكامن فى تصريحات مسؤول الداخلية ربما يكون صحيحا، وربما يكون واقعا، ولكنه بكل تأكيد لن يكون مؤثرا، لأن العالم انشغل بقرار المنع، ولأن العالم لا يتأثر أبدا بالأحكام الاستباقية.
كان على السيد اللواء أبوبكر أن يحمل بين كفيه مجموعة من الأوراق والأدلة التى ترد على تقرير «هيومان رايتس ووتش»، أن يثبت بالصور والفيديوهات التى تمتلك منها الداخلية الكثير أن اعتصام رابعة كان مسلحا، وليس سلميا كما قال التقرير، كان عليه أن يأتى بالفيديو الخاص بالممرات الآمنة التى صنعتها الداخلية لخروج المتظاهرين من الاعتصام ويضعه فى عين وفد المنظمة الحقوقية الدولية ويكذب ما ورد فى تقريرهم بشأن عدم وجود ممر آمن لخروج المتظاهرين.
أدلة فساد التقرير موجودة بين سطوره، ولكن المسؤولين فى مصر استسهلوا اللجوء للعادة القديمة ومهاجمة التقرير واتهامه بأنه مؤامرة على مصر ويريد إسقاطها والنيل منها، رغم أن أحدهم كان قادرا على أن يسأل عن طبيعة الـ200 شخص الذين حصلت المنظمة على شهاداتهم وإن كانوا «إخوان» أو لديهم ميول سياسية أم لا؟
وكان قادرا على أن يأتى إليهم بآلاف الشهادات الأخرى من مواطنين مصريين طبيعيين وبصور دخول الأسلحة إلى رابعة وفيديوهات تعذيب الضباط والجنود المختطفين لينسف التقرير تماما.
كان على أحد فى الدولة المصرية أن يدرك أن الإخوان انتظروا تقرير «هيومان رايتس ووتش» كثيرا لكى يستخدموه فى تسويق ما حدث فى رابعة وكأنه قصة اضطهاد، ولكن أحدا من الدولة لم يدرك أو يستوعب أهمية ما وصل إليه التقرير فيما يخص عدد الضحايا الذين قدرهم بحوالى 1100، وهو الرقم الذى يدمر أسطورة الإخوان تماما ويحرم الجماعة من تسويق فض رابعة على أنه فيلم لأكبر مذابح القمع والاضطهاد، بل سيكون التقرير دليلا على مبالغات الإخوان وأكاذيبهم فى أرقام الضحايا الذين يقولون إنهم بلغوا 6 آلاف أو 8 آلاف.
القصة هنا لم تعد تقرير «هيومان رايتس ووتش»، ولا منع وفدها من الدخول إلى مصر لإعلان التقرير، القصة هنا تعبر عن واقع مضطرب يغرق فيه عدد من المسؤولين، تخيلوا أنهم بمنع دخول وفد المنظمة الدولية إلى مصر قد منعوا التقرير من الظهور، وهاهو التقرير ينشر فى الصحافة المصرية وتناقشه دول العالم، ولكن نقاش تحت مظلة التقرير الذى تخشاه السلطة فى مصر وليس نقاشا تحت مظلة كونه مجرد تقرير حقوقى كان يمكن الرد عليه والحد من تأثيره بإظهار تناقضاته وتناقضات جهة إصداره، التى لم تجرؤ يوما على وصف ما تفعله إسرائيل فى غزة بالمجزرة أو المذبحة.
ارحموا مصر من ارتباككم، وانسفوا صندوق حلول الأزمات القديم، فلا دولة المستقبل يمكن أن تبنى بإرث أفكار مبارك، ولا العالم عاد يستسيغ تلك الأساليب الفاشلة.
محمد الدسوقى رشدى
«فض رابعة».. البطحة التى تضعها الحكومة فوق رأس مصر
الأربعاء، 13 أغسطس 2014 10:02 ص
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة