فى يوم من ذات الأيام كنت واقفة بسيارتى على كوبرى أكتوبر، حيث كان المسار متوقفًا تمامًا.. يبدو أن قائد السيارة التى تقف خلفى شرد قليلا، فصدم سيارتى بقوة من الخلف، مما دفع سيارتى للاصطدام بالتاكسى الذى كان يقف أمامى.
توقعت أن ينزل قائد السيارة الخلفية- كما هو معتاد فى الشوارع المصرية- ليكرر هراء حول وقوفى بشكل مفاجئ، وإلقاء الخطأ علىّ بوصفى امرأة لا أجيد القيادة، ولو أنه «ابن حلال» سيكتفى بنثر هذا الهراء فى وجهى، ثم يقول لى متعطفًا: «خلاص مش عايز منك حاجة». كانت المفاجأة أن نزل قائد السيارة الخلفية بالفعل، لكنه توجه إلىّ، ولم أكن نزلت من سيارتى، وقال فى أدب جم: «أنا آسف، آسف، آسف، ثانية واحدة أبص على الخبطة»، ثم بدا عليه الأسى: «إنت مخبوطة جامد، وأنا الغلطان، ومتحمل نتيجة غلطى وحاصلح لك العربية إنت والتاكسى، ثم توجه إلى سائق التاكسى الذى كان نزل من سيارته، وهو يعتذر ويفحص سيارته، لكن التاكسى لم يكن قد أصيبت سيارته بسوء. ظهر ضابط مرور ليسأل عما حدث فقال له التاكسى: «أنا وهى واقفين وهو خبطها فخبطتنى»، فقال قائد السيارة: «أيوه أنا غلطان، ومستعد أتحمل نتيجة غلطى». أسقط فى يدى، وأصبت بذهول ممزوج بانبهار وسعادة، ثم رفعت صوتى مخاطبة الضابط: «أنا تمام يافندم.. ما عنديش مشكلة».
كان شخص ما ظهر فى هذا التجمع، فلا هو كان مصاحبًا لقائد التاكسى، ولا لقائد السيارة المعتذر، ولا لى طبعًا، ولا أظنه على معرفة شخصية بضابط المرور، يبدو أنه ترك سيارته على الكوبرى، وقرر أن يشارك معنا، تظهر على وجهه الأهمية، وكأن المشكلة لن تحل إلا بتدخله.. نظر إلى وقال: «ربنا يكرمك»، وتوجه إلى قائد السيارة المعتذر وهو يلح: «لا.. تمام إزاى؟ عربيتك مخبوطة، أنا حاصلحها لك، لو سمحتى عشان أعرف أنام بالليل، وتوجه إلى سائق التاكسى الذى لم تصب سيارته».. إصرارى على عدم إحداث مشاكل وأنا المتضررة أحرجه، فقال سائق التاكسى: «ما حصليش حاجة شكرًا»، فعاد هذا الشخص المعجزة ليعطينى الكارت: «والله العظيم حتاخدى الكارت وحتعرفى تتكلف كام وأنا حاصلحها لك».
أخذت الكارت فقط لأعرف اسمه وأتمكن من الدعاء له، وأوهمته بأننى سأتصل به حين أعرف تكاليف تصليح السيارة وذهبت، ثم استغرقت من الوقت أربع ساعات وأنا أدعو لهذا الرجل، ساعتين أدعو له، وساعتين أدعو لوالدته التى أحسنت تربيته: «ربنا يكرمك يا فلان، ربنا ما يرميك فى ضيقة، ربنا ينولك كل اللى فى بالك، ربنا يزيدك من أدبه، ربنا يكرم والدتك، ويرحمها حية أو ميتة، ربنا يجازيها كل خير»، حتى تنبهت بأننى أشبه بالمتسولين.
السبب فى تصرفاتى الهيستيرية هذه هو أننى لم أتعود على مصرى يعتذر، ناهيك عن اعتذاره بسبب حادث طريق، والناس اعتادت أن تدعى أن معها الحق حتى وهى مخطئة، والأهم أن الناس اعتادت ألا يعتذر رجل لامرأة، لأن ذلك ينتقص من رجولته، ثم إن ثقافة الاعتذار فى مصر شبه معدومة، ذلك لأن المتعارف عليه: «ما تعتذرش لبعدين اللى قدامك يركبك».. المذهل حقًا أنك إن اعتذرت «اللى قدامك بيركبك» فعلًا، فاحتقار الاعتذار متبادل بين المخطئ والمحق. الناس فى مصر لا تحب أن تعتذر لأن ذلك سيحملها تبعات لا ترغب فى تحملها، وهى أيضًا لا تحب من يعتذر لها، لأنها ستحمله فوق طاقته، و«مدام البعيد حيطته واطية يشيل الطين بقى».
وهذا ما سنتحدث عنه فى المقال القادم إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة