هى رحلة الدم المقدس فى تراب الوطن، يا لبؤس المغنى الذى لم يذكر اسمه فى أغنيته الوطنية البلهاء المملة المكررة فى أفواه كل من تاجروا بدمهم خلف ميكروفونات الإذاعة وشرائط الكاسيت التى لا يشتريها أحد، هو «محمد حسن عطوة عبدالغنى»، من قرية «طوخ الأقلام» مركز «السنبلاوين» خرج فى عام 72 مع العشرات من شباب قريته ليلحقوا بمئات الألوف من القرى التى تشبه قريتهم، ليلحقوا بجيش الوطن ليستردوا الأرض التى انتهكها الأعداء، بعد حرب أكتوبر المجيدة فى 73 عاد للوطن منتصرا من عاد واستشهد من استشهد وفقد من فقد، يومها استشهد من قرية «طوخ الأقلام» 8 شهداء، كلهم عادت جثامينهم، وتم دفنهم ما عدا جثمانه، فقد ظل «مفقود» رسميا لمدة خمس سنوات ثم أعطوا ابنته شهادة وفاته، يحكى «سيد» شقيق الشهيد، وظلت أسرته سنوات تحاول أن تحصل على معاش الشهيد حتى حصلت عليه سنة 76 وكان المعاش وقتها 170 قرشا، محمد حسن عطوة عبدالغنى لم يعد اليوم مفقودا فقد وجد رفاته حفّاّر قناة السويس الثانية أحفاد حفّار قناة السويس الأولى التى استشهد فى حفرها أثناء الحفر 125 ألف مواطن يشبهونه كثيرا فكل الشهداء لهم وجه واحد، حصدتهم الكوليرا والجدرى والجوع، وفى مارس 1869 كانت المراكب الحربية قد اصطفت على شكل نصف قوس داخل ميناء بورسعيد فى منظر بديع، وبعد أن تناول الجميع الغذاء على نفقة الخديو صدحت الموسيقى بالغناء وبعزف الخديو وتلا الشيخ «إبراهيم» كلمة تبريك وقام الحبار من الدين المسيحى وأنشدوا نشيد الشكر اللاتينى، ليصل الزمن بقناة السويس إلى عام 67 ومن بعده إلى عام 73 ليقدم مئات الآلاف من شباب الوطن رفاق «محمد حسن عطوة عبدالغنى» أرواحهم دفاعا عنها، دفاعا عن الوطن.
فى سنة 69 دخلت على أبى وهو يصيح بفرح: «عاش أبطال بورسعيد» وكان يمسك فى يده جريدة الأهرام، والتف إخوتى حول أبى الذى راح يعرض علينا العناوين الرئيسية للجريدة فقرأنا: «بورسعيد تنسف دى لسبس.. دى لسبس يهوى عن قاعدته عند مدخل القناة.. سفن التطهير تتقدم نحو القناة» ومن يومها احتفظ أبى بعدد الأهرام كما يفعل دائما مع الأعداد المهمة، ومات أبى منذ 25 سنة لكنى ما زلت أحتفظ بنفس عدد الأهرام ولم أخرجه إلا منذ يومين عندما قرأت فى الصحف أن محافظ بورسعيد يبحث إمكانية إعادة تمثال «دى لسبس» لمدخل القناة وتمنيت أن يكون هناك بدلا منه نصب تذكارى لمن استشهدوا فى حفر قناة السويس والدفاع عنها، آه، ثمة عاشق يعود جثمانه اليوم رفاتا إلى قريته بعد 41 سنة مفقودا ومدينا بثمن مهماته التى فقدها فى الحرب لتسد عنه أمه وأبوه دينه، لكنه مات وأظنه كان فى دمه أغنية من ماء، وحبات رمل، وفى ذاكرته عصافير فوق أغصان شجرة جميز فى مدخل قريته «طوخ الأقلام» وبنتا تركها رضيعة وماء موحش تحول إلى نار بفعل النابالم، وكان جسده ينأى عن سريره القاسى ليرتاح فى أحضان رمال رطبة، فقد كان جسده يتمنى رطوبة الماء فى قيظ الصحراء ولم تضن بها عليه أرض الوطن فوهبها دمه المقدس، ولم يحصل منها إلا على رطوبة الرمال، كان يحمل كفنه فى دمه مع راية الوطن.. كان قد رحل.. كما لو كان بالأمس ارتحل.