الأمر يكون صعبًا حين تخطئ فى مجتمع لا يفهم من المعتذر سوى أنه «ضعيف»، أو «مضطر»، أو «اتزنق»، وليس أمامه خيار آخر سوى أن يعتذر، لإنه لو كان لديه أى خيار آخر، لتبجح، أو لألقى باللوم على شخص آخر «غالبًا ما يكون أضعف»، أو لقال ببساطة: مش أنا.
الحقيقة إننا فى مجتمع يقال عنه باللهجة الدارجة «يستوطى» حائط المعتذر، وحائط الضعيف، وحائط المظلوم، لذلك فالناس بدورها تفضل ألا تعتذر، وقد تختلق مبررات، أو تقلب الحقائق، ويفضل أن تلقى باللوم على المعتدى عليه، فيكون ذلك أفضل جدًا.
إن كنت لا تصدق، فسل نفسك: كم مرة رأيت أبًا أو أمًا يعتذران لطفلهما عن خطأ ارتكباه فى حقه؟ كم رئيسًا فى العمل رأيته فى حياتك يعتذر لمرؤوسيه؟ كم قيادة سياسية، أو بالأحرى رئيس جمهورية، رأيته يقول: أنا مخطئ وأرجو أن تسامحونى؟
من العيب، بل من العار، أن يقدم أب على الاعتذار لابنه، لأن ذلك «سيجرئ الطفل على أبيه»، ويا سلام بقى لو بنت.. البنت دى تخرس خالص. وبالمناسبة، حين كنت طفلة، وكانت والدتى، أو والدى، يعتذران لى بشأن أمر من الأمور، كنت أرى بعض الغرباء ينصحانهما بعدم الإقدام على هذه الفعلة الشنعاء، ماذا وإلا سيفلت عيارى ولن يستطيعا تربيتى والسيطرة علىّ، ذلك لأن التربية فى مصر تعنى السيطرة على الطفل، لا التنشئة على قيم ومبادئ يجب أن يتلزم بها الأب والأم قبل أن يطالبا الطفل بالالتزام بها.
وبناء عليه، فإن الرئيس لن يتمكن من «السيطرة» على مرؤوسيه إذا أقر بالخطأ واعتذر، وكذا فإن القيادة السياسية لن تتمكن من السيطرة على «رعاياها» إذا أقرت بأن خللًا ما حدث فى الإدارة وأنها تعتذر عنه، لذلك فإن الأفضل أن تلقى باللوم على الضعيف، فإن الأب إذا أقنع الطفل بأن مشكلة ما حدثت لأنه هو المخطئ، فإن الطفل سيقتنع بيسر وبساطة، لأن الأطفال بطبيعتهم يسهل إشعارهم بالذنب، وهو ما يترتب عليه أنه قد يتعرض الطفل لبعض الانتهاكات من البالغين الأغراب، ولا يبوح بها لأنه تربى على أنه المخطئ دومًا.
ثم يكبر هذا الطفل وقد نما بداخله شعور بالدونية، يدفعه إلى ظلم من هو أضعف منه، والخضوع لمن هو أقوى، ويتغلغل هذا الشعور، وينمو، ويستمر، وينتشر، حتى يصبح «الشعب مش وش نعمة»، أو «الناس غلطانة عشان بتخلف كتير»، أو «إيه اللى ودا القتيل فى سكة القاتل؟»، و«الفلسطينيين هم اللى باعوا أرضهم»، و«الراجل أتجوز على مراته عشان لازم فيه حاجة ناقصاه»، وتكون الفتاة التى يتم التحرش بها هى «الفاجرة»، ويتساءل الناس: «مش شايفين لابسة إيه؟»، ويكون المتظاهر هو الذى «خرب البلد»، لا المسؤول الذى ظلمه، ثم سد عليه أبواب ونوافذ الشكوى، فلم يجد وسيلة للتعبير سوى التظاهر، فلابد أن المجنى عليه هو المخطئ، لأنه ببساطة هو الأضعف، والأضعف يجب أن يتحاشى دهس الأقوى، لا أن يرحم الأقوى الأضعف، ولو أن هناك إنصافًا فى الحكم على الأمور، لتنبه الناس إلى أن الأقوى دائمًا هو المخطئ، وأن مَن فى موقع المسؤولية الأكبر هو الذى يتحمل القدر الأعظم من الخطأ، وأنه فى النهاية، الضعيف ضعيف، لا حيلة له ولا قوة، وحتى لو أقدم على تصرف أهوج أو خاطئ، فما ذاك التصرف سوى ردة فعل لما وقع عليه من غبن.. لكن أنى يرى الناس ذلك وقد نشأوا منذ الصغر على أن «الكبير كبير، والنص نص نص، والصغير ما نعرفوش»؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة