مشكلة داعش الكبرى من وجهة نظرى، بعد غلوهم فى تكفير المسلمين، هى فكرتهم الساذجة عن الخلافة الإسلامية، وتصورهم مع بعض أشباههم بأن الخلافة الإسلامية لا تحتاج إلا لبقعة من الأرض، مثل منطقة الموصل وما حولها، أو بعض مناطق الصومال، أو جزء من أفغانستان مثل الذى كانت تسيطر عليها طالبان، أو قطعة من سوريا كالتى تسيطر عليها مجموعة النصرة، وعدة آلاف من شباب المقاتلين يأتون إلى هذه الأرض من كل حدب وصوب، ثم علم أسود كتب عليه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وعشرات من الدبابات والمدرعات ومئات من الـ RBJ والقذائف وآلاف البنادق يتيه بها المقاتلون فى فخر وخيلاء وهم سعداء بالحرب والنزال، كارهين للسلم والسلام، ناسين قول النبى صلى الله عليه وسلم «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا»، ثم إلزام النساء بالنقاب والختان، وتخيير المسيحيين بين الحرية أوالإسلام أو الهجرة.. هذا هو مفهوم الخلافة عندهم.
ورغم أن هذا المفهوم قائم عند المجموعات التكفيرية قبل داعش منذ فترة طويلة، فإنها لم تستطع أن تقيم أى دولة قوية ومتقدمة طوال سنوات طويلة مضت، فضلاً على أن تقوم خلافة بالمعنى الحقيقى لها.
إن الخلافة الإسلامية الحقة أكبر من ذلك بكثير، وأجل وأعظم من ذلك الفهم القاصر، ومن يفهم الخلافة بمفهوم داعش فهو يسىء إليها، ويهدم بنيانها فى عقول وقلوب المسلمين وغير المسلمين.
وإذا كانت مفاهيم الجهاد الحقة قد أضاعها من يضعون السيف دومًا فى غير موضعه، فيقاتلون فى المكان الخطأ والزمان الخطأ والصديق قبل العدو، ولا يعرفون شيئًا عن ضوابط هذه الفريضة العظيمة فضلاً على تطبيقها، فإن الذين يعلنون الخلافة الإسلامية فى المكان الخطأ وفى الزمان الخطأ وبالطريقة الخطأ، وبالإنسان الذى لا يصلح لإقامة الخلافة، وبالقائد الذى لا يصلح أن يكون قائدًا لقرية أو مدينة فضلًا على دولة، فإن ذلك كله يصب فى غير صالح الخلافة الإسلامية الراشدة التى تتوق إليها أجيال المسلمين جيلاً وراء جيلاً. لقد سمى الملا عمر نفسه أميرًا للمؤمنين، وكان يحكم قرابة نصف أفغانستان، ويحارب النصف الآخر، ولم تستمر دولته أكثر من ثلاث سنوات، وتسلّم أفغانستان محررة كلها، فأوقعها فى احتلال دولى من أمريكا وحلفائها بعد 3 سنوات فقط من حكمه.
إن العبرة ليست بالألقاب والأسماء، ولكن بمدى رقى هذه الدولة وتقدمها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وصناعيًا وتكنولوجيًا، وكذلك تقدمها أخلاقيًا، وتطبيقها لمعايير العدل والإنصاف والحرية والكرامة الإنسانية، وذلك رقم الفرق الشاسع بين طالبان وداعش.. فطالبان أفضل آلاف المرات من داعش، ولولا أن القاعدة أضاعت أفغانستان وطالبان بقيامها بهجمات 11 سبتمبر دون إذن، أو إقرار، أو معرفة طالبان والملا عمر لكانت أفضل مما هى عليه الآن بكثير.
نعود إلى موضعنا الأساسى، وهو أن الخلافة الإسلامية هى مشروع حضارى إسلامى متكامل لا يقود الناس بالقهر ولا بالقتل، ولا يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.. فالإنسان فى ظل الخلافة الإسلامية الراشدة لا يمنحه الحاكم أو الخليفة حريته، ولا يكتسبها منه، وهى ليست منة من أى مسلم، حاكمًا كان أو محكومًا، على أى مواطن يعيش فى هذه الخلافة، ولكن كل إنسان فيها اكتسبها وهو فى بطن أمه مع الدم الذى سرى فى المشيمة من أمه إليه، ووهبها له الخالق سبحانه الذى أعطاه الحرية الكاملة، وسيحاسبه عليها فى الآخرة، وهذا ما هتف به عمر بن الخطاب وهو ينصر المسيحى على عمرو بن العاص وابنه دون خوف من أن يتهمه أحد بجنون أو كفر أو فسق «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا».
الخلافة الإسلامية نموذج حضارى عظيم، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رفض أن يصلى فى الكنيسة فى القدس حتى لا يحولها بعض جنده المنتصرين إلى كنيسة؟!.. قيمة العدل عنده أعظم من بناء مسجد إضافى، مع أن فخر الانتصار يغرى المنتصر أحيانًا بتحويل الدنيا كلها لتكون ملكًا خالصًا له ولأتباعه، ولكن عمر يقرأ المستقبل، ويريد أن يقدم النموذج العادل الرحيم لهذه الخلافة الراشدة.
يستقبل بطاركة القدس عمر بن الخطاب، خليفة المسلمين، فيعجبون لهيئته وملابسه، حيث يرونه مرتديًا ثوبًا من القطن كثير الثقوب، كثير الرقاع، يخوض بقدميه فى الطين تاركًا جمله فى نوبة راحته دون كبرياء ولا خيلاء، ولا فرحة بسيف ولا جيش، ولا غرور ببندقية لا تصنعها خلافته الهزيلة، أو دبابة لا نعرف حتى صنع محركها، أو طائرة إذا لم تصل قطع غيارها إلى دولة الخلافة من دول الكفر ستظل رابضة على الأرض أبد الدهر.
هذا هو النموذج الحضارى الحقيقى الذى يريد عمر بن الخطاب وأمثاله أن يقدموه كنموذج للخلافة الحقة.
إن مشروع الخلافة الإسلامية الراشدة فى خطر شديد من تشويه خصوم الإسلام وأبنائه على السواء، ومن هؤلاء أمثال داعش الذى يقدمون هذا المشروع على أنه مشروع قتل وذبح لمن يخالفهم حتى من رعيتهم.. إن القتال ليس شرفًا لذاته كما يتصور البعض، فالوحوش فى البرارى تتقاتل ويقتل بعضها بعضًا ولا يعد ذلك فخرًا لها، ولكن القتال الذى يشرف أصحابه هو الذى يدفع العدوان، ويحمى الأوطان، ويلتزم بفقه الجهاد العظيم الرحيم الذى أقره القرآن والسنة المطهرة.
تأملوا يا قوم عمر بن الخطاب وهو فى لحظات عمره الأخيرة، وهو يلفظ أنفاسه، يأمر المسلمين ألا يقتصوا إلا ممن قتله، فلا يصيبون أحدًا من عشيرته وأقاربه.. إنه يراعى العدل حتى مع من قتله، ويقيم القسط حتى فى آخر لحظة من حياته ليقدم نموذجًا يبقى ويعيش ويحيا خالدًا حتى بعد زوال دولته، أما دولة داعش فلا هم لها إلا طرد المسيحيين، والاستيلاء على كنائسهم، والاهتمام بختان النساء.. ما شأن الحاكم مسلمًا أو غير مسلم بختان النساء، إنه فى أغلب فقهاء الإسلام مكرمة للمرأة وليس واجبًا عليه، ثم إنه أمر شخصى فى الإسلام، لا علاقة للحاكم به من قريب أو بعيد، ولا يجوز للحاكم أن يجبر امرأة عليه، وإذا كان لا يجوز للحاكم حتى لو كان عمر بن الخطاب نفسه أن يجبر أحدًا على تغيير دينه، فكيف يجبره على أمر شخصى جدًا وسرى مثل الختان؟!
وهل هناك خلافة مثل خلافة داعش لا تستطيع صنع سيارة أو حتى موتور سيارة، أو صنع دبابة أو طائرة، أو حتى أى جهاز طبى مهما كانت بساطته، أو حتى جهاز رنين مغناطيس، أو سونار، أو جهاز أشعة بالكمبيوتر.
أى خلافة تلك التى لا تكون لها جامعات عريقة أو منظومة تعليمية يشهد بها القاصى والدانى، أو تكون لها منظومة حضارية إنسانية، أو لها جيش نظامى معروف الرتب والدرجات والنظم واللوائح، وليس كل من فيه يقوم بأى شىء، ويتصرف بأى تصرف، ويقتل من يقتل، ويجرح من يجرح، ويذبح من يذبح، أو تكون لها شرطة على أرقى مستوى مهنى تضاهى أفضل شرطة فى العالم فى كل التخصصات، أليست هى شرطة الخلافة.
فضلًا على القضاء.. وآه، ما أدراك بالقضاء فى داعش، كل شىء حتى الحكم بالذبح أمام الكاميرات يتم فى لحظات، والقضاة هم الخصم والحكم والمنفذ، وهم كل شىء وكلهم شباب، فليس هناك سوى حكم واحد سهل وجاهز، وهو الإعدام، وكأن الشريعة أو الكون لم يعرف غيره، وكل هؤلاء الجنود من الشباب الغر، الصغير السن الذى لا خبرة له فى الدين أو الدنيا أو الحكم أو حتى الحياة، وهم لا يعترفون بدرجات التقاضى، رغم أن هناك أدلة شرعية كثيرة تؤيد مثل هذه الدرجات فى التقاضى.
نعم قد يفسد القاضى الحقيقى فى أى دولة، أو يتم تسييسه، لكنه فى النهاية سيجد من زملائه أو رؤسائه من يصوب حكمه فى درجات التقاضى المختلفة، ومن يوبخه أو يعنفه فى الصحافة أو الإعلام أو الأصدقاء أو العلماء ويرده عن غيه، لكن مثل هؤلاء الشباب المقاتلين بالبنادق والمدافع كالمراهقين العسكريين لا يصلحون أبدًا أن يكونوا قضاة وخصومًا ومنفذين وذابحين فى أرض المعركة، وليس فى ساحات المحاكم.
إننى بعد قراءتى الكثيرة والمتواصلة فى التاريخ الحديث، خلصت إلى حقيقة أليمة مفادها أن الميليشيات المسلحة تكون أكثر فسادًا وظلمًا وجبروتًا فى الأرض وعلى الناس من ظلم الدول الديكتاتورية وجبروتها، إذ إن هذه الدول الديكتاتورية قد تظلم معارضيها أو تقهرهم، فإن لها قواعد وضوابط فى الظلم، لكن مثل هذه الميليشيات لا تكون لها أى قاعدة أو ضابط، فهى تظلم الجميع بلا ضوابط ولا قواعد، وقد تقتل الجميع وتقوم بمذابح يندى لها الجبين.. ولعل ما حدث بين الطوائف الأفغانية المتقاتلة بعد تحرر أفغانستان من الاحتلال السوفيتى ما يدل على ذلك، وكذلك ما حدث فى الصومال، ومذابح الميليشيات الشيعية للسنة فى العراق بعد زوال حكم صدام، إذ كانت تقتل بالاسم فضلاً على المذهب، مثل من تسمى «أبوبكر، أو عمر، أو عائشة»، وكذلك مجموعات القاعدة فى العراق التى كانت تفجر المساجد الشيعية فى أيام اكتظاظها، أو الميليشيات الشيعية التى كانت تفجر مساجد السنة فى أيام الجمعة.
إن الدول الديكتاتورية مهما كان بغيها وظلمها فهى أرحم بكثير من الميليشيات، ولعل مذبحة صابرا وشاتيلا التى قامت بها ميليشيات الكتائب المسيحية اللبنانية ضد المدنيين الفلسطينيين، وكان أفراد هذه الميليشيات يغتصبون المرأة الفلسطينية 19 مرة حتى تموت، وكانوا يبقرون بطن الحامل، ويقتلون الأطفال.
أما الميليشيات فى رواندا التى تقاتلت مع بعضها البعض حتى قتل فى هذه المعارك الضاربة قرابة 1/10 مليون إنسان معظمهم من المدنيين الغلابة والنساء والأطفال، وهم ضحايا الصراعات فى كل الأوقات، حيث لا حول لهم ولا قوة.
وقد كان القرآن الكريم عظيمًا حينما نبه إلى هذه الحقيقة منذ أكثر من 15 قرنًا، وذلك فى قوله تعالى «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً».
فالمدنيون والأطفال والنساء يجمعهم هذا الوصف الرائع للقرآن الكريم «لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة