وقف عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) خارج المدينة يترقب أخبار معركة نهاوند، ولما جاءه البشيرُ يُبشّره بنصر المسلمين سأله عمرُ عن الشهداء، فذكر له عددا من أعيان الناس وأشرافهم ومشاهيرهم، ثم قال لعمر (وآخرون من أفناد الناس «أى ضعفائهم» لا يعرفهم أمير المؤمنين).. فأخذ عمرُ يبكى ويقول: (وما ضرّهم ألا يعرفَهم أمير المؤمنين؟! لكنّ الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر؟).
تذكرتُ هذه الحكمة العُمَرية هذا الأسبوع عندما عثر العاملون أثناء عمليات الحفر بمشروع قناة السويس الجديدة على هيكلٍ عظمىٍ كاملٍ غير متحللٍ لواحدٍ من هؤلاء الذين لم نكن نعرفهم ولكنّ الله يعرفهم.. أحد شهداء الجيش المصرى الذين احتضنتهم رمال سيناء أكثر من أربعين عاماً.. وتم التعرف عليه من متعلقاته الشخصية التى وُجدت بجانب الهيكل ولم تبلُ، وهى زمزمية المياه والمشط والحذاء ومحفظة نقوده وبداخلها بطاقته وكارنيه التجنيد المدون به اسمه (محمد أحمد حسن عطوة).. وأعلنت القوات المسلحة أن الشهيد فُقد فى 18 أكتوبر 1973 وتم اعتباره شهيداً فى 18 أكتوبر 1977 وأنه يحمل الرقم العسكرى 5037334 وبطاقة شخصية 167 فاقوس بمحافظة الشرقية ومن مواليد 20 مارس 1945 وقد تم دفن رفات الشهيد بعد جنازةٍ عسكريةٍ مهيبةٍ فى 26 أغسطس 2014.
ذكّرتنا يا محمد بما كاد بعضنا أن ينساه.. رمال سيناء غاليةٌ.. ليس لما تحتويه من ثرواتٍ معدنية.. وإنما بما تحتضنه من جثامين الشهداء.. مصرُ دهرٌ كاملٌ وتاريخٌ أزلىٌ من المعارك المقدسة (وكل معارك الوطن مقدسة).. ولكل معركةٍ أبطالُها الذين نعرفهم، وأضعافُهم من الذين لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم كما قال عمر.. وأبطالها لهم نفس القدسية، فهم الذين حفظوا لهذا البلد ديمومَته وكرامته وشرفه.. المؤسف أن مبدعينا قد قصّروا (باستثناءاتٍ قليلةٍ) فى تخليد شهدائنا الذين نعرفهم، فما بالنا بالذين لا نعرفهم.. أستثنى منهم ملحمة (أغنية على الممر) لعلى سالم وعلى عبدالخالق، ورائعة جمال الغيطانى وإنعام محمد على (حكايات الغريب).
نحن نحتاج إلى تسليط الأضواء على أبطالنا (وفى القلب منهم الشهداء) لنُذكّر أنفسنا بأن الوطن الذى أنجب محمد عبيد ومحمد كرّيم وجواد حسنى ومار مينا وإبراهيم الرفاعى وإبراهيم عبدالتواب وعبدالمنعم رياض وغيرهم ممن نعرفهم من النجوم التى ترّصع تاريخنا، وأنجب أضعافهم من الأبطال الذين لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم.. وطنٌ أنجب كل هؤلاء هو وطنٌ جميلٌ حقاً.. أجمل كثيراً من الأتربة القبيحة التى تعلو وجهه أحياناً فى غفلةٍ من الزمن.. نحتاج لأن نتذكر شهداءنا، لا لتكريمهم (فليس أكرم مما هم فيه الآن) ولكن لنأخذ منهم اليقين بأن وطناً انتسب له هؤلاء، لا يستحق ما يعانيه ولا بد أن ينتفض قريباً من كبوته العارضة.
مصر مليئةٌ بهؤلاء (العاديين) الذين يمشون بيننا ويفعلون المعجزات فى لحظات الشّدة المفاجئة ولا يطلبون منّا جزاءً ولا شكوراً.. أعرف قصةً حقيقيةً لواحدٍ منهم على سبيل المثال.. مجندٍ عادىٍ من ريف مصر اسمه محمد الخبيرى كان ضمن الكتيبة التى عبرت القناة فى حرب 73 وهاجمت نقطة العدو القوية رقم 149 فى نطاق الجيش الثالث الميدانى.. واستعصت على الاقتحام حوالى خمسة أيامٍ نظراً لوجود مدفع رشاش نصف بوصة يسيطر على طرق الاقتراب كلها ويصيب ويُفشل كل محاولات الاقتحام.. فإذا بهذا الشاب (العادى) ينسى أحلامه وأسرته ومستقبله ويزحف على بطنه حاملاً قاذف اللهب صاعداً إلى أعلى النقطة الحصينة ويُلقى بنفسه على مزغل (فتحة) الرشاش مفرغاً حمولته من النابالم فتشتعل النقطة ويتساقط مَن فيها قتلى ويستسلم الباقون اختناقا وتسقط النقطة ويسقط هو شهيداً بعد أن تلقى مئات الطلقات.
أما رائعة الغيطانى (حكايات الغريب) فتستند إلى قصةٍ حقيقيةٍ لأحد هؤلاء (العاديين)، عبدالعزيز سائق موسسة الاهرام الذى دخل مدينة السويس اثناء الحصار الصهوينى ولم يخرج ولم يُعرف مصيره وتحاكى أهل السويس بشجاعته وإقدامه ولكنهم أقرّوا بأنه اختفى، ويُعتقد أن عبدالعزيز قد استُشهد فى نهاية حصار السويس ولم يُتعرف على جثته ودُفن فى مقابر الشهداء المجهولين.
يتعجب الكثيرون كيف يُحوّل الجيش هؤلاء (العاديين) إلى عمالقة؟ ما الذى تفعله بهم هذه المؤسسة الوطنية لتسحرهم هكذا؟ الحقيقة أنه لا وجه للعجب ولا مكان للسحر فى هذا.. إن جيش مصر هو مصر.. هو المصريون، ولكن فى أبهى صورهم.. يلتحقون به تجنيدا وتطوعاً.. متعلمين وأميين.. صعايدة وفلاحين.. مسلمين ومسيحيين.. بكل إيجابياتهم وسلبياتهم.. فإذا بسلبياتهم تتراجع ويصطبغون بقيمٍ إيجابيةٍ واحدةٍ.. الانضباط والإنجاز والجديّة.. ويربط بين الجميع معادلةٌ غير مكتوبةٍ مفادها أن كل ما هو مِلكُ الوطن غالٍ.. وأن حفنةً من تراب الوطن تساوى روحك.. وأن كُل عسكرىٍ مشروعُ شهيدٍ (بحق).. سواء فى وقت الحرب أو السلم.. فى التدريب أو الميدان.. فى السر أو العَلن.. وللشهادة فى المؤسسة الوطنية العريقة معنىً عظيمٌ لم يُبتذل ولم يكن فى يومٍ من الأيام مجالاً للمزايدة والاسترزاق.. فالاستشهاد قيمةٌ عليا وشرفٌ لا يجوز المتاجرة به.. وهو نفس المعنى الذى ينتقل لأُسر الشهداء دون تلقين.. وقد عايش كثيرون منّا مشهداً متكرراً يكاد يتطابق.. تتلقى أسرة الشهيد النبأ المفجع بحزنٍ نبيلٍ يجمع بين لوعة الفراق والفخر بالشهيد.. وأحياناً يُحرمون حتى من لقب (شهيد) فى النعى فى الصحف لأسبابٍ تتعلق بسرية المهمة فلا يتململون.. لا يطلبون تعويضاَ (وإن أُعطوا رضوا) ثم يمضون فى حياتهم يصارعونها وتصارعهم ككل المصريين، مكتفين بصورةٍ للشهيد مكللةٍ بالسواد بجوار أخرى لمستند الشهادة معلقةٍ على الحائط، يعتز بها الأبناء حينما يكبرون.
مصر مليئةٌ بهؤلاء العاديين الذين نعرف بعضهم ولا نعرف معظمهم ولكن الله يعرفهم، ومَدينةٌ باستمرارها لهم.. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ولكنهم جميعا لم يُبدّلوا تبديلاً ولم يخلطوا أبداً بين الوطن والشركة.. أولئك الذين يعملون بلا ضجيج.. يُنتجون ويكدحون وينشرون الخير والنماء ولا تعرفهم الفضائيات ولكنّ الله يعرفهم.
هم (النشطاء) الحقيقيون دون شعاراتٍ.. يُنصَفون أحياناً ويُظلَمون غالباً.. ويفدوننا بصدورهم فى وقت الحرب.. يقاومون الفاسدين ويصبرون على أذاهم ويحفظون لوجه مصر جماله.. منهم العاملون والمنتجون المخلصون فى مؤسساتنا العامة والخاصة.. ومنهم الذين يبيتون على الطوى ولا يسألون الناس إلحافاً.. ومنهم الفلاحات الشريفات القادمات فجرَ كل يومٍ من ضواحى القاهرة، حاملاتٍ ما أنتجنه من جبنٍ وبيضٍ لترجعن بجنيهاتٍ قليلةٍ تتعفف بها أسرهن.. ومنهم الرجال المنكسرون فى (سوق الرجالة) فى انتظار (شيلة رملة) تهُدّ الحيل فى قيظ الصيف مقابل جنيهاتٍ قليلةٍ ولكنها حلال، ولا يخطر ببالهم (مجرد خاطرٍ) أن يلوثوا جيوبهم بمالٍ حرام.
فيا أيها الابن الحبيب (استُشهد وعمره 28 عاماً) والأخ الكبير (لو عاش لكان عمره الآن 69 عاماً) محمد أحمد حسن عطوة.. نحن مدينون لك ولكل زملائك الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم.. الذين لحقوا بك والذين لا يزالون بيننا.. والذين لن تفرغ مصر منهم فى الزمان الآتى إلى يوم الدين.. نحن مدينون لكم بالحياة والبهجة والأمل والافتخار.. فشكراً لك وشكراً لهم.. وطِبْ نفساً مع النبيين والصديقين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة