عادة لا أهتم بالتعليق على تصريحات الوزراء، هى عادة مريحة لى رغم أنها تحرم الكاتب من مادة ساخنة دائمًا، لكن مما رأيناه فى حياتنا، فالوزراء هم موظفون عند رئيس الجمهورية، ويعكسون سياساته أكثر مما يعكسون سياساتهم، ومن يفكر أن يكون قائمًا بذاته عادة يتم التخلص منه.. هذه سياسة قديمة فى مصر.. الذين يريدون فرصة النقد والانتقاد ينتظرون تصريحات الوزراء، لكنى لست منهم، على أن ذلك ليس نهائيًا، فهناك من التصريحات ما لا يمكن إغفاله أو المرور عليه مرور الكرام..
بعد ثورة يناير انتظرنا وزراء تتجلى عبقرياتهم أو قدراتهم، لكن ما جرى تعرفونه، بدا دائمًا كأنه لا فكاك من فكر عصر مبارك، خاصة فى الوزارات السيادية كما يقال، وفى وزارات المالية والصناعة وغيرهما.. لم أعلق إلا على تصريح أو اثنين للوزراء، منها تصريح للسيد منير فخرى عبدالنور عن استخدام الفحم
ولن أعيد الكلام فيه.. لقد قلنا بما فيه الكفاية إن الفحم لونه أسود لكنهم مصرون على أن الفحم لونه أبيض! ما علينا.. التصريح الذى سأعلق عليه اليوم من سيدة فاضلة هى ناهد العشرى، وزيرة القوى العاملة، وعادة مع النساء يجب اللطف والتلطف رغم أنها وزيرة، والتعليق لا يخصها شخصيًا بل يخص مهنتها التى تعبر عنها، لكن هكذا أنا، وتصريح السيدة الوزيرة نشرته هذه الجريدة التى أكتب فيها، ونشر يوم الأحد الماضى.. تقول السيدة الوزيرة فيه إنها وفرت أكثر من 79 ألف وظيفة خالية فى مختلف المجالات عزف الشباب عن العمل فيها
لأنها لا تناسبهم، قالت ذلك فى مؤتمر الهجرة غير الشرعية كما جاء فى الجريدة، أى فى مؤتمر يناقش هجرة الشباب العاطل بحثًا عن فرصة حياة أفضل مهما عرضته إلى الموت.
أذهلنى الرقم، أكثر من 79 ألف وظيفة رفض الشباب العمل فيها!، بل الذهول الأكثر أنك تعرف من كلامها أن رواتب هذه الوظائف لا تقل عن ألفى جنيه، وقد تزيد على ثلاثة آلاف
إلى جانب دهشتى من الخبر تملكتنى الحيرة، أريد أن أصدق ولا أستطيع، ثم فوجئت بأكثر من اتصال تليفونى من ناس عاديين أعرفهم ويعرفوننى يقولون لى إن العاطلين منذ سنوات بالملايين، وخريجو جامعات، فكيف يمكن أن نصدق ذلك؟!.. أحدهم كان غاضبًا من الجريدة نفسها، وصرخ: «مش كفاية يا أستاذ إبراهيم اللى احنا فيه.. ابنى خريج جامعة متفوق من عشر سنين وعاطل»
قلت له إن الخبر منشور على عهدة وزيرة القوى العاملة، ومن كتبه كتب مؤكدًا أن هذا حسب قولها ليدرأ عن نفسه وعن الجريدة أى شبهة، ثم صار الخبر محل مناقشة على صفحات «تويتر».. أحد المناقشين قال إن الوظائف كلها من نوع «الديليفرى» ورجال أمن، وما إلى ذلك، مما لا يتناسب مع مؤهلات الشباب الجامعية.. بدا التفسير مقنعًا، لكن عدد الوظائف التى عزف عنها الشباب كبير جدًا، 79 ألفًا، فهل يمكن أن تكون كلها من هذا النوع؟ من الصعب جدًا.. وأحد المناقشين قال: الأزهر أعلن عن 2500 وظيفة فتقدم لها حوالى 400000 «أربعمائة ألف»
وإن وزراة الرى طلبت 200 مهندس فتقدم للوظيفة 25 ألفًا.. ومن خلال خبرتى، وما رأيته فى الحياة، عادة ينشر طلب الوظائف ليكون رسميًا وقانونيًا ويكون المنتظرون للوظيفة معروفين، أو أكثرهم.. طبعًا هذا لا ينطبق على طلب الأزهر لأن العدد المطلوب كبير جدًا، والوظائف متنوعة من حارس إلى مدرس، وقد لا ينطبق على وزارة الرى أيضًا لأن المطلوب 200 مهندس، وبالطبع لا يمكن لوزارة القوى العاملة أن تعلن عن 79 ألف وظيفة لناس تعرفهم
ومن ثم يعلن أنه لم يتقدم أحد، كما أنه لا يمكن تصور أنه لم يتقدم أحد، أو أن الشباب رفضوا هذه الوظائف.. أعود وأقول إنه من خلال خبرتى، وما رأيت فى هذا الوطن يكون المتقدمون لأى وظيفة حوالى 100 ضعف العدد المطلوب، فالبطالة تضرب فى البلاد منذ زمن، ولم يستطع لا القطاع العام ولا الحكومة ولا القطاع الخاص استيعاب البطالة فى مصر، وهذا أمر لن يتغير فى يوم وليلة، بل زاد فى السنوات الثلاث السابقة، فماذا قصدت السيدة الفاضلة وزيرة القوى العاملة بهذا الكلام؟، وكيف يمكن أن نصدق أن أحدًا لم يتقدم من الشباب لهذه الوظائف أو كما تقول لم تعجبهم؟
أما قولها إنها صادفت موقفًا غريبًا من أحد الشباب، حيث رفض 79 ألف مهنة يصل الراتب فيها إلى أكثر من 2000 جنيه، فيمكن أن أصدقه، وإن كنت لا أعرف كيف أصدقه، فيمكن لشخص أن يفعل ذلك، لكن لا يمكن لآلاف أن يفعلوا ذلك.. 79 ألف وظيفة خالية لا بد كما هو الحال أن يتقدم لها ما يزيد على المليون.. بصراحة غير قادر على الفهم، وغير قادر على اتهام السيدة وزيرة القوى العاملة بمجافاة الحقيقة، لماذا وماذا ستستفيد؟، هل ليقال بعد ذلك إن البطالة من صنع الشعب؟
لا أظن، هذا تفكير شيطانى، ولا يمكن أن يصدقه أحد.. لقد فكرت أن هناك خطأ ما، وأن الأمر هو 79 وظيفة هى التى رفضها الشباب الذين تتحدث عنه،. لكن كيف تعلن الوزارة عن 79 وظيفة بواقع وظيفة واحدة لكل مهنة.. مستحيل.. إذن هى 79 ألف وظيفة حقًا.
يبقى ما قالته السيدة الوزيرة إن مكتبها مفتوح لكل من أراد العمل، وما دام الأمر كذلك فليذهب إليها من يريد العمل، وأتمنى أن يُحسن استقبال من يذهب من الشباب الذى يملأ مواقع الفضاء الافتراضى طلبًا لوظيفة أو بحثًا عن وظيفة.. إحدى الفتيات كتبت تقول إنها تكره الأيام التى جعلت والدها يعمل ليل نهار لتتم تعليمها، وليتم إخوتها تعليمهم، تكره هذه الأيام وهى جالسة فى البيت بدون عمل، وتكره أيام المذاكرة، وأيام الامتحانات، ولا أظن أنها وحدها، لذلك لا يمكن أن أقتنع أو يقتنع أحد بأن 79 ألف وظيفة لم يتقدم لها أحد، أو لم تعجب أحدًا، يكفى ما يعيشه الناس من أسى يا سيدتى، فمثل هذه التصريحات شديدة الإيلام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة