هذا المقال قد يُغضبُ البعض مِنّى أو يُدهشهم على الأقل.. لا ضيْرَ.. الأهم ألا يُغضبَ الله.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (لا يمنعّن أحدَكم مخافةُ الناسِ أن يقولَ بحقٍ إذا علِمَه).. وهذه شهادتى لرجلٍ لا يشهدُ له أحد.. وهو الآن فى دار الحق.. أتحدثُ عن الدكتور عاطف عبيد الذى لَقِى وجهَ ربه الكريم الرحيم صباح الجمعة.. وكان له فى حياته ما لَهُ، وعليه ما عليه.. أما ما عليه فمعروفٌ وقد كنتُ (ولا زلتُ) خصماً لسياسة الخصخصة التى كان هو عنوانها الأشهر إلى أن حَمَل الرايةَ بعده شِلّة الوريث من أطفال الرأسمالية المتوحشة.. ولكننى اليوم أُركّزُ على ما للرجل.. اذكروا محاسن موتاكم.
منذ عدة شهورٍ كُنتُ أتدارس مع بعض الزملاء فى مركز إعداد القادة لإدارة الأعمال بالعجوزة كيفية الاحتفال باليوبيل الفضى لهذه المؤسسة الناجحة.. وكان مما طُرِح تكريم مؤسسى المركز الأحياء والراحلين.. واستعرضنا الأسماء.. إلا اسماً واحد أحسستُ بأن الزملاء تَحَاشواْ أن يذكروه.. إما حَرَجاً مِنّى لموقفى السياسى المعروف.. أو حَرَجَاً من الاقتراب من صاحبه الذى لم يعُد يُذكر إلا فى سياق المحاكمات.. الدكتور عاطف عبيد.. قلتُ للزملاء هذا اسمٌ لا يليق الاحتفال بدونه.. أنا أرفع عنكم الحَرَج.. نحنُ نتحدث عن مركز إعداد القادة لا عن الخصخصة.. ولا يجوز أن نحتفل بمركز إعداد القادة دون أن نُكرّم صاحب فكرته ومُنشئه الحقيقى، جُبناً أو جحوداً.. وأربأ بنفسى وبِكُم من الصفتين.. سنبدأ عام اليوبيل بزيارة الدكتور عاطف عبيد.
دعوتُ عدداً من قُدامى أساتذة المركز لمصاحبتى فى زيارة الرجل الذى عاصروا إطلاقه لفكرة المركز ومباشرته لعملية الإنشاء.. استقبَلَنا مُتهللاً.. كان صادقاً حينما قال (الآن رُدَت لى الروح بِكُم كما تُردُّ كلما شاهدتُ المركز من فوق كوبرى أكتوبر) وقال (كثيراً ما أطلب من السائق أن يمر بى من أمام المركز وأقول الحمد لله.. هذا شىء طيبٌ أنجزناه).. قلنا له (كلما عنّ لك زيارة المركز، ادخل بغير استئذانٍ فأنت صاحب بيت).. تهلّل الرجلُ وانطلق يُحدثنا بفرحٍ عن تفاصيل إنشاء كلٍ من مركز إعداد القادة ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار اللذين أنشأهما وهو وزيرٌ لشؤون مجلس الوزراء.. وعاد بالذاكرة أكثر للوراء متحدثاً عن تجاربه الثرية كأستاذٍ للإدارة وممارسٍ لها منذ عودته من البعثة الدراسية للولايات المتحدة فى بداية الستينيات.. لم يتطرق لما حدث بعد ذلك وتحاشيناه نحن بالطبع.. سلّمناه درع المركز مفتتحين به عام اليوبيل وودّعناه ومضينا.
فى طريق العودة سَرَحتُ أتفكرُ فى دراما هذا الرجل.. أستاذ الإدارة الناجح.. الذى ابتلعته السياسةُ.. أما مركز إعداد القادة بالعجوزة الذى تشرّفتُ برئاسته بعد ثورة يناير فهو بلا شك أحدُ أياديه البيضاء.. فهو صاحب فكرته التى لخّصها لمجلس الوزراء منذ ربع قرنٍ فى أن مشكلة مصر الحقيقية فى الإدارة لا سيما فى الوحدات الإنتاجية (الصناعية والخدمية) وإلى أن يتم خلق جيلٍ جديدٍ من المديرين لا بد من تغيير عقلية القيادات الموجودة من خلال مركزٍ يعاون منظمات الأعمال المصرية والعربية (العامة والخاصة) فى زيادة قدرتها على المنافسة، وليكون بمثابة بيت الخبرة الوطنى الذى يقدم الدعم التدريبى والاستشارى فى مجال اكتشاف وإعداد القيادات.. وقد كان المركز أول مركزٍ فى الشرق الأوسط يحمل اسم (إعداد القادة)، وشجّع نجاحه المبكر العشرات من المراكز التى أُنشئت بعده فى مصر والعالم العربى على (اقتباس) نفس الاسم.. ومن المفارقات أن الكثيرين من خريجى هذا المركز كان لهم فضل الصمود بشركاتهم وتحويلها من الخسارة للربح رغم ما لاقوه من إهمالٍ منذ بدء برنامج الخصخصة.
ظهر فى مرحلة إنشاء المركز عدة أسماء من البنّائين، كالمهندس محمد عبدالوهاب وزير الصناعة الذى تحمّس للفكرة وأصرّ على أن تكون البداية بإعداد قادة الصناعة (ومن ثم كان اسم المركز فى البداية مركز إعداد القادة للصناعة) والكيميائى محمد أحمد حسين أول مديرٍ للمركز، والصديق عبدالحكيم عبدالناصر الذى قامت شركته بتأهيل المبنى ليكون أكبر مركزٍ متخصص فى التدريب وإعداد القيادات.. لكن العَلَم الأكبر على هذه التجربة بلا جدالٍ كان عاطف عبيد.
فيما بعد كانت الخصخصة هى السوءة الكبرى التى ارتبطت باسم الرجل.. وحتى فى هذه، يُحسَبُ له أن هذه كانت قناعته التى لم يُغيّرها منذ عاد إلى مصر فى بداية الستينيات فى عز فترة المدّ الاشتراكى.. ولم يفعل كغيره الذين كتبوا مؤلفاتٍ عن حتمية الحل الاشتراكى ولم يجدوا حَرَجاً من أن يحدّثونا بعد أن تغيّرت البوصلة عن حتمية الحل الرأسمالى.. لا أحسب أن الرجل كان فاسداً بالمعنى المباشر للكلمة (وأتمنى أن يكون كما أظُنّ) ولكن فى بلدٍ كمصر وفى ظل نظامٍ مستبدٍ تكاد تنعدم فيه الشفافية، كان بديهياً وحتمياً أن يتحول تطبيق برنامج الخصخصة إلى مرتعٍ للفاسدين.. وفاقَم من فداحة التطبيق أنه لم يكن فى قوة وعناد الدكتور كمال الجنزورى، فلم يقف (أو لعله لم يستطع الوقوف) فى وجه قوىً أخرى حول رأس النظام تداخلت فى البرنامج.. إلى أن أصبحت الاستباحةُ كاملةً بدخول ابنى الرئيس الأسبق وشلّتهما من رجال الأعمال على الخط.
يوم أن دخل عاطف عبيد السجن لأول مرةٍ منذ عاميْن محبوساً احتياطياً على ذمة قضية البياضية، استضافتنى إعلاميةٌ شهيرةٌ لأُعقب على الخبر باعتبارى من خصوم الرجل.. وقد فوجِئَتْ بى أقول لها (إن من يُهاجمون هذا الرجل الثمانينى وهو الآن فى مَحبَسِه ليسوا سواءَ.. فمنهم من هم مثلى يختلفون معه باعتباره عنواناً لسياسة الخصخصة.. ولكن هناك فريقاً آخر يهاجمه لتضرره من قراراتٍ للرجل قد تكون طيبةً مثل قراراته لإصلاح النظام المصرفى.. لكن الأخطر هو الفريق الثالث وهم مئاتٌ من رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة والجمعيات العمومية للشركات الذين نفّذوا وأداروا تفاصيل صفقات الخصخصة وصاغوا عقودها الفاسدة، وهم أكثر من يُهاجمون الرجل وسياسته الآن ليداروا على فسادهم).. المشكلة أن هذا الفريق الثالث لم يُصبهم مكروه وبعضهم لايزالون فى مواقعهم أو تبوأوا مواقع أعلى بعد الثورتين.. بينما الرجل حُبِس ومات وهو رهْنُ المحاكمة!.
هناك من اختصم الرجلَ وهو فى بؤرة السلطة واستمرّ كذلك بعد أن انسحبَتْ من حوله أضواؤها.. لا أتحدث عن هؤلاء.. ولكننى أتحدث عن كثيرين ممن استفادوا من انتسابهم له ولمّا أدارت له الدنيا ظهْرَ المِجَنّ ابتعدوا عنه.. ولم يكتَفِ بعضهم بالابتعاد وإنما زايدوا حتى على خصومه.. ما أسوأَ النذالة.
واليوم وصفحات التواصل الاجتماعى تمتلئ بأوصافٍ وعباراتٍ لا تليق بجلال الموت.. أدعو الله أن يرحم عاطف عبيد ويتجاوز عن سيئاته.. هذا رجلٌ أصاب وأخطأ.. وله كأى واحد مِنّا حسناتُه وسيئاتُه.. وهذه شهادتى فى وقتٍ لا يجرؤ أن يشهد له فيه أحد.. أردتُ أن أُقدمها عن حَسَنَةٍ لا مِراء فيها وهى مركز إعداد القادة (فضلاً عن مركز معلومات مجلس الوزراء).. لعلها تكون من تلك الحسنات التى تُذهبُ السيئات.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة