لا أعرف سببا لهذا الغضب الذى أبداه الكثيرون بسبب تصريحات المستشار أحمد عبد الرحمن النائب الأول لرئيس محكمة النقض وعضو مجلس القضاء الأعلى عندما أكد أنه لن يتم قبول ابن عامل النظافة فى النيابة معللا ذلك بحساسية منصب القاضى ووكيل النيابة، حيث أشار إلى أنه يخشى من أن يتعرض القاضى إلى موقف محرج عندما يسبه أحد المتهمين قائلا: "أنت نسيت نفسك يا بن الزبال".
ثار الكثيرون وتذمروا وارتدى كل منا رداء الواعظ لنعلن رفض هذه التصريحات التى تعادى الأهداف التى قامت من أجلها ثورة يناير بل وثورة 23 يوليو فى تكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين، رغم أن القاضى لم يفعل أكثر من أنه أعلن صراحة عما يدور بداخلنا عن مشاعر الطبقية التى نخفيها تحت شعارات الثورية والكلام البراق.
فليسأل كل منا نفسه بصدق هل يشعر بالمساواة مع عامل النظافة وأبناءه أو البواب وأبناءه أو الخادمة التى تقوم بتنظيف البيت، وهل يقبل ابن أى منهم إذا ما تقدم لخطبة ابنته حتى وإن كان متفوقا ومتميزا وطموحا، هنا سيكون الرد الذى يبرر مشاعرنا الطبقية بأن الزواج حرية وأن الناس مقامات وقد نستخدم الدين والقرآن فى غير محله فنردد "ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات".
يشعر كل منا أنه أعلى وأفضل من ابن عامل النظافة حتى وإن كان حاله لا يختلف كثيرا وإن كان موظفا صغيرا أو عاملا فى مصنع - مع الاحترام لكل من هؤلاء - ولكن سيرى كل منهم أنه أعلى درجة من عامل النظافة وابنه، وهكذا ينظر كل منا إلى من هو أقل منه فى المكانة أو المنصب.
تنضح الطبقية حتى من مصطلح "ابن الزبال" الشائع على ألسنتنا بدلا من مصطلح "عامل النظافة" فنربط بينه وبين الزبالة وليس النظافة، إذا صادفناه فى وسائل المواصلات العامة نتجنب أن نجلس إلى جواره، فالظلم الواقع عليه تشاركنا فيه نحن وحكوماتنا المتوالية بعدم الاهتمام بتوفير أدنى سبل الحماية والمظهر اللائق والوقاية من الأمراض والحياة الكريمة.
حقا لم يكن هناك داع لتصريح سيادة القاضى بأنه لن يتم قبول ابن عامل النظافة، فلن يجد من هؤلاء أحدا يجرؤ على التقدم لهذه الوظيفة لأنه يشعر بحجم الطبقية والنظرة الحقيقية التى ننظر بها إليه والتى رسخت لدى أغلبهم مشاعر النقص وعدم المساواة بغيره من المواطنين.
يتغنى كل منا بشعارات ثورة يناير ويصرخ منتقدا تصريح القاضى دون أن ندرك أننا نحن أول من حطم هذه الشعارات بمجرد خروجنا من ميدان التحرير، المكان الوحيد الذى كنا نتساوى فيه لا فرق بين غنى وفقير وزير أو غفير، فالشرط الوحيد لدخوله هو أن تحمل بطاقة هوية تثبت أنك مصرى فقط دون تقيد بمن أنت أو ابن مين فى مصر، وبمجرد أن خرجنا منه وخلعنا رداء الثورة عاد كل منا ليحمل منصبه ومنصب أبيه ومكانة عائلته وكروت أصحابه ومعارفه "المهميييييين" ليشهرها فى وجه لجان المرور والمخالفات وفى كل المصالح والخدمات وعادت عبارات "أنت ماتعرفش أنا مين وابن مين".
ليتذكر كل منا بصدق كم مرة لجأ فيها لمثل هذه الأفعال وهنا لن يغضب كثيرا من تصريحات نائب رئيس محكمة النقض، بل ولن يغضب حين يعلم رد أحد كبار القضاة على أحد أوائل الخريجين بكلية الحقوق والذى لم يتم قبوله فى النيابة، حيث شكا الخريج المتفوق من أن الواسطة تحكمت فى الاختيارات فما كان من سيادة القاضى إلا أن رد عليه بكل هدوء قائلا: "وماله إذا كانت الجنة بتدخلها بواسطة وهى شفاعة النبى "ص" مش هاتدخل النيابة بواسطة؟!"
لا تغضبوا من تصريحات القاضى ومن صراحته التى نخفيها جميعا تحت شعارات براقة كاذبة، ولا تتحسروا على ثورة يناير وشعاراتها التى دهسناها بمجرد أن خرجنا من حرم ميدان التحرير ولا تبكى بدموع التماسيح على ابن الزبال يا سعادة الباشا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة