هذه هى القراءة الثالثة للاقتراب من فكر د. سليم العوا ولا يمكن لهذا الاقتراب أن يتم إلا بالحديث عن أساتذته الذين هم من أهم الروافد الأساسية لفكره فهم الذين تعلم على أيديهم ونهل من علمهم وتربى على موائدهم العلمية.
ومن أهم هذه الشخصيات الشيخ بدران خليل أستاذ الشريعة الإسلامية فى كلية الحقوق والذى يقول عنه د. العوا: «كان له فضل كبير علىّ فى أن يبصرنى باتساع أفق المنهج الفكرى للفقهاء.. لأنه كتب عن مسألتى الزواج والطلاق فى غير الشريعة الإسلامية.. وكتب عن تعارض الأدلة.. وقد اتسع الرأى الفقهى فى هذه المسائل فاستفدت منه استفادة عظيمة».
كما تعلم على يد الشيخ مصطفى خفاجة الذى كان حنفياً متعصباً لا يعرف إلا المذهب الحنفى ولا يدرس غيره.. وتعلم منه كيف يحترم الإنسان مذهبه ويقدره تقديراً شديداً.
وتعلم كذلك على يد الشيخ عمر عبدالله وكان من الشركس الذين قدموا من تركيا واستقر بمصر وكان وقتها فى الفرقة الثانية بالحقوق.. وكان الشيخ الشركسى يتكلم عن النية باللفظ قبل الفعل كأن يقول نويت كذا وكذا.
وبعد المحاضرة قال له د. العوا:
يا فضيلة الشيخ النية محلها القلب وكل فقهاء المذاهب قالوا بذلك.. والمتأخرون هم الذين قالوا بجواز التلفظ بها.
قال: وأنت إيه عرفك.
قال له: هكذا فى كتب الفقه.
قال: إيه كتب الفقه دى؟!! لما تبقى عارف الكتب تبقى تتكلم.
فذهب د. العوا إلى البيت وأحضر أحكام القرآن للجصاص لأنه حنفى المذهب ووجده يقول: «إن النية أمر قلبى محله القلب لا يعبر عنه باللسان».
وفى اليوم التالى قال د. العوا للشيخ الشركسى: «الكلام ده موجود فى كتاب أحكام القرآن للجصاص»
قال: أنت عندك أحكام القرآن.
قال له: نعم.
قال: إذن هات هذه الطبعة كى أراها.
يقول د. العوا: «وظل يحاصرنى ويصر على رؤيتها.. فطلبت من أبى أخذها فرفض.. وقال: هذا الكتاب لن يخرج من البيت هذه طبعة أسطنبول.. ولو خرجت لن ترجع.. وهذا شيخ تركى «وتلاقيه لم يره» منذ أن كان يدرس فى تركيا.
فقلت: يا أبى ده شيخى.. ده أستاذى.. قال: لا.
المهم تحايلت وقلت للشيخ: هل يمكن أن تزورنا لأن أبى رفض أن يخرج هذه الطبعة من البيت.
قال الشيخ الشركسى: يبقى هو عارف قيمتها.. وبالفعل حضر إلى منزلنا وشرب القهوة ورأى الكتاب وكان سعيداً به غاية السعادة.
وفى اليوم التالى قال أمام الطلبة جميعاً: «أنا كنت قلت عن النية كذا وكذا.. وأحد زملائكم» وأشار إلىَّ قال لى إن المذهب الحنفى يقول كيت وكيت.. وكلامه صحيح وكلامى خطأ.
وحينما سألت د. العوا ماذا تعلمت من هذه القصة؟
قال لى: هذه القصة التى عشتها بنفسى تعد رمزاً عظيماً على تواضع العلماء الذى قل أن يوجد فى زماننا.
وقد حصل د. العوا على الدرجات النهائية فى دبلومة الشريعة الإسلامية بحقوق الإسكندرية.. وكانت هذه نادرة فى هذا القسم بالذات.. ثم حصل على دبلوم القانون العام ثم أعد رسالة الدكتوراه عن موضوع جديد لم يكن مطروقاً قبله وهو «الجريمة السياسية فى الفقه الإسلامى.. وكان سبب هذا الاختيار الغريب لهذه الأطروحة أنه فصل من عمله فى النيابة العامة عام 1966 فيما سمى بمذبحة القضاء.. فأصر د. العوا على بحث هذه القضية علمياً.. وقال لى فى حوار معه منذ سنوات طويلة: «قلت لنفسى لابد أن أدرس حكاية الجريمة السياسية هذه».. ولكنه منع من كل أعماله وطرد من مصر وقتها فذهب إلى الكويت ولم يكمل رسالة الدكتوراه بعد أن أعد جزءًا كبيرا من أطروحتها.
وفى الكويت عمل مع الشيخ. حسن العشماوى وتعلم منه الكثير من العلوم نظرياً وحياتياً.. ثم ذهب إلى بريطانيا وأعد رسالة الدكتوراه فى جامعة لندن عن «نظرية العقوبة فى الشريعة الإسلامية والفقه المقارن».. ثم ذهب إلى نيجيريا ليدرس فى جامعاتها ثلاث سنوات.. ثم إلى السعودية ليدرس فى جامعة الرياض عشر سنوات.. وبعد أن درس هناك مادة «النظام السياسى الإسلامى» قررت الجامعة هذه المادة على جميع الجامعة بعد أن كانت تدرس فى كلية واحدة.
ثم عاد إلى مصر 1984م وعمل أستاذاً فى حقوق الزقازيق عشر سنوات ثم مرض بالقلب فاستقال من العمل الجامعى.. وتفرغ للمحاماة والكتابة والنشر والمحاضرات.
وعندما سألته عن الذى تعلمه من الشيخ حسن العشماوى وهو أحد كبار قيادات الإخوان فى عهد عبدالناصر.. والصديق الحميم لعبدالناصر قبل أن يدب النزاع بينهما ويحكم عليه بالإعدام ويهرب من مصر.. وحسن العشماوى هو صهر د. العوا حيث تزوج الأخير ابنته أ. أمانى بعد وفاة زوجته الأولى.. قال: تعلمت من حسن العشماوى فن الحياة والتوافق معها والتكيف مع ظروفها.. وتعلمت منه حكمة الشيوخ فقد كنت شاباً مندفعاً.. وتعلمت منه أن حسن التأتى للأمور مقدم على قول الحق الذى لم يأت وقته أو الذى يأتى بمفسدة.. وإنه إذا أردت أن تقضى حاجات الناس فلابد من حسن التأتى لها وحسن الولوج إليها.
والحقيقة أننى أيضاً تعلمت ذلك من د. العوا.. فما رأيته يخاطب أحداً صغيراً أو كبيراً إلا ويبدأ كلماته بكلمة «سيدى».
ولما قلت له «هل غياب حسن التأتى والتلطف للأمور» سببه غياب فقه المصالح والمفاسد قال «هو سبب ولكنه ليس جوهريا ولكن السبب الأهم هو غياب التربية والتوجيه.. فحفظ العلم موجود.. ولكن فهمه وفقهه وعمله غير موجود.. فالشافعى حينما قال «شكوت إلى وكيع سوء حفظى».. لم يكن يقصد الحفظ المعروف ولكنه الفهم.. فإذا استغلق عليك الفهم الصحيح فراجع نفسك.
إن الموازنة بين قولة الحق والمفسدة المترتبة عليها مسألة دقيقة تحتاج إلى فهم دقيق وقلب صادق.. فكيف تصوغ وتسوق الحق إلى الناس وفى الوقت نفسه تحقق أكبر المصالح لهم وتدرء أكبر المفاسد عنهم.. هذه هى المعضلة الكبرى التى يحار فيها الناس واقعياً.
وقد كان حسن العشماوى قد عرك الحياة وعركته.. وخبرها وخبرته وطحنته وطحنها.. فخرج من ذلك بحصيلة كبيرة حاول أن يعطينى إياها مع إعطائه هديته الأخرى وهى زوجتى الفاضلة أ. أمانى التى كانت نعم العون لى فى كل الشدائد.
قلت له: ولكن من هو أعظم أساتذتك وأهمهم؟!
قال دون تردد: الشيخ. محمد مصطفى شلبى رئيس قسم الشريعة الإسلامية فى جامعة الإسكندرية الذى صحبته من عام 1959 إلى وفاته رحمه الله 1998.. وكنت آتيه فى إجازاتى الأسبوعية الخميس والجمعة إلى القاهرة لأقرأ عليه فى بيته فى حدائق شبرا.. وكنت أبقى معه أيام السبت والأحد والاثنين فى الإسكندرية.. وكنت استقبله عند محطة القطار الساعة 10.25 صباحاً وأصحبه إليها فى العودة فى السادسة مساء الاثنين من كل أسبوع.. وكنت أحضر محاضراته فى السنة الدراسية التى أنا فيها وفى غيرها من السنوات بما فيها الدراسات العليا.. فكنت أحضر محاضراته فى الدراسات العليا وأنا مازالت طالباً فى الليسانس.. ولا أنسى ذات مرة فى مناقشة مع أحد أساتذة الشريعة الكبار.. أنه قال له: ناقش العوا فقد سقيته علم أصول الفقه بالملعقة.. هذا هو شيخى الأول والأكبر مقاماً وعلماً.
سألته هل تذكر بعض مواقفه؟!
قال: من مواقفه الرائعة أن أحد الوعاظ الكبار عين عضوا فى مجمع البحوث الإسلامية.. وكنت مستغرباً أن يعين واعظا فى مجمع مهمته الفقه وبيان الحلال والحرام فذكرت ذلك لشيخى فقال لى: إن الفقه لا ينفصل عن الرأى والواقع.. وعمل هذا الرجل وسط الجماهير الإسلامية يعطيه معرفة هائلة بالواقع.. ونحن فى المجمع نحتاج إلى علماء الواقع كما نحتاج إلى العلماء بالمذاهب.. ثم أضاف: ياريت يكون عندنا منه اثنين ثلاثة فى المجمع وللعلم فإن الشيخ محمد مصطفى شلبى كان عضواً فى المجمع من أوائل السبعينيات.. وهذه الحادثة كانت سنة 1995.
وقال: أذكر واقعة أخرى لا أنساها أبداً عندما لخص أحد أساتذة الفقه الإسلامى كتاب الشيخ شلبى الرائع «الفقه الإسلامى بين المثالية والواقعية» ونسب التلخيص إلى نفسه ونشره فى مجلة العربى الكويتية ذائعة الصيت دون ذكر المؤلف الحقيقى.. فكنت شديد الاغتمام والحزن لهذه السرقة العلمية الفجة وأخذت نسخة من المجلة وكان الشيخ شلبى معاراً آنذلك لجامعة بيروت العربية فقرأت له المقال وكان يتلذذ بسماعة كأنه ليس كلامه ثم سألنى: كم نسخة تطبع من هذه المجلة وتباع؟!.
فقلت له: قرابة مائة ألف قال: كم يقرأون العدد الواحد؟.. قلت: حوالى عشرة.. فقال: يا بنى فائدة العلم أن ينتفع به.. كتابى الأصلى يقرأه مائة أو مئتان من الخواص.. أما هذا سينتفع به مئات الآلاف فلا تحزن.. ولم يحرك ساكنا حول هذا الأمر.. ولم يرفع أى قضية على الذى سرق الكتاب.
قلت له: ماذا تقول فى الذين تعلمت على أيديهم؟!
جميع الذين تعلمت على أيديهم لهم أفضال علىّ لا تحصى وقد صحبتهم جميعا صحبة التلميذ القريب المحب.. وكنت أعجب لاختلافهم العلمى فإذا رجعت إلى كبير منهم بين لى سبب الاختلاف وأسانيد الآراء.. وكم ذكروا لى قول الشاعر:
وكلهم من رسول الله ملتمس.. رشفاً من البحر أو غرفاً من الديم
قلت له: وماذا تصنع لهم وأنت فى هذه السن؟!
قال: أدعو لهم يومياً وأترحم عليهم.. وأنقل مواقفهم التربوية إلى أبنائى وطلابى وأحاول نشر علمهم بقدر ما أستطيع.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة