هذه شهادة متأخرة لأكثر من عشرين عاماً، ولكن مهما طال الزمن، فإن بعض الحقيقة لا يموت حتى لو مات بعض أبطالها.
فى الأسبوع الماضى نشرت الصحف خبر وفاة الدكتور عاطف عبيد رئيس وزراء مصر من عام 1999 وحتى 2004، وقبلها شغل الفقيد منصب وزير قطاع الأعمال الذى كان منوطا به تنفيذ برنامج الخصخصة الذى قيلت فيه أساطير من الفساد والإفساد، وعلى إثر إذاعة خبر وفاة عبيد، راحت أقلام كبيرة مثل أستاذنا فاروق جويدة، وأستاذنا مكرم محمد أحمد وآخرين، إما يتساءلون أو يدافعون عن سمعة رجل رحل، وتلتهم أقلام تطالب بطى صفحة الماضى، واحترام حرمة الموت وإغلاق ملف الحديث فى أمره، لأنه بين يدى المولى عز وجل, وقد أقبل هذا المنطق فى طى صفحة الماضى فى حالة العلاقات والخصومات الشخصية حين يموت بعض أطرافها، فنقول منه لله بقى, أما حين يكون الأمر متعلقا بقضايا فساد طالت أمة بأسرها ببعض من ماضيها القديم وحاضرها ومستقبل أجيال لم تأت بعد، فإن عبارة حرمة الموت لا تسرى على هذه الحالة، ذلك لأن فساد عمل شخص فى منصب عام لا يعنى فسادا شخصيا بقدر ما يعنى فساد نظام كامل، باع حقوق أجيال فاتت وأجيال قادمة.
تلك شهادة شخصية، وإن تأخرت عشرين عاماً، ولكن آن الأوان أن أقولها على الملأ، بعد أن كانت بين الخاصة, ففى نهاية التسعينيات كانت عائلة أمريكية تسكن إلى جوارى ثم صاروا أصدقاء لى، كان رب الأسرة خبيرا فى إحدى الشركات الأمريكية المنوط بها تقييم الشركات للدول فى حالات الخصخصة، وكان عمله بشكل مباشر مع عاطف عبيد, وكانت زوجته كاتبة رائعة, وقضت هذه العائلة فى مصر سنوات كانوا كما يرددون أجمل سنوات العمر، وهم من تنقلوا بين كثير من دول العالم من أوروبا لأفريقيا لآسيا ورغم ذلك كانوا يقولون إن مصر هى درة البلاد التى عاشوا فيها, وكان كما يبدو لى أن إقامتهم فى مصر ستطول, وكنت سعيدة بهذه الجيرة والصداقة, ولكن بين يوم وليلة أخبرتنى صديقتى وجارتى وهى حزينة أن زوجها طلب نقله من مصر، وأنهم يستعدون للرحيل، ورتبت حفلة وداع لهم، وسألت الزوج عن سبب طلبه الانتقال من مصر رغم علمى بسعادتهم فى الإقامة بها, فجاءت إجابته صادمة واضحة جلية لا تردد فيها، حين قال لى الرجل حرفياً « لقد عملت فى بلاد كثيرة منها المتقدم كفرنسا، ومنها دول نامية كبنجلاديش والهند ودول فى أفريقيا، وعرفت وشاهدت وتعاملت مع الفساد، لكنى لم أر بلداً فيه فساد كمصر, إننى أشعر أن عملى فى بلدكم يُلقى فى سلة القمامة, فأنا أدرس وأحسب وأقيم سعر الشركات المعروضة للبيع، ثم أنقل الملف لمكتب عاطف عبيد، فيلقى به فى سلة المهملات ويتم بيع الشركات بأقل من ربع ثمنها، وربما أقل، وما يؤخذ فوق الترابيزة لا يقارن بما يتم تداوله تحت الترابيزة, والحق أننى لا أستطيع تحمل كل هذا الفساد والشعور بأن عملى لا قيمة له!!».
أى والله العظيم.. وأشهد الله أن تلك كانت كلمات رجل خواجة لا من دينى ولا من دينك، لأنه كان لادينى رفض ضميره أن يحتمل فساد مصريين يهدرون أموال بلدهم ويسرقونها، ويقبل هو أن يتقاضى مرتبا محترما بلا طائل، فقرر أن يرحل عن بلاد أحبها، وعيشة راضية مرفهة، فلم يقل وأنا مالى إيكش يولعوا، ولكنه أخذ أسرته وعاد من حيث أتى ليتنقل فى دول أخرى يستطيع احتمال فسادها!
إن إغلاق قضايا فساد لموت طرف يعد غض بصر عن الفساد الذى وصل للأنوف لا الركب، كما قال سالف الذكر زكريا عزمى, وهو يغرى كل فاسد بأن فساده سيدفنه الزمن، مصر بعد ثورتين هل ستستمر على ذات النهج أم آن لنا أن ننظف جروحنا لنبدأ بداية صحيحة ونظيفة؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة