براء الخطيب

أبوالعز الحريرى: يذهب الآن فى دقيق الفقراء وفى عروقنا كبرياء

السبت، 06 سبتمبر 2014 10:16 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مات كما يموت كل المحاربين عن الأوطان، مات كما يموت عمال المصانع وزارعو حقول الحنطة، مات بالفشل الكلوى وهو الذى كان قد منح أخاه كليته، مات بفشل الكبد، وهو الذى كان قطعة من كبد الوطن، غادرت القاهرة للإسكندرية أتوكأ على عصاى حاملا بين جوانحى شوقا لرؤيته، كان فى غرفة الإنعاش، وكانت «هند» ابنته تحاول أن تبل ريقه بقطرة ماء بملعقة، وكانت نفسه تعاف كل شىء، تمسح «هند» عن جبهته نسغ ماء وهى تقبل يده، وأنا قبلت رأسه، كان «هشام» ابنه البار يرد على مكالمات الهاتف التى لا تنقطع، وكان «هيثم» ابنه يقرأ القرآن فى صمت من جهاز الآيباد، أما «زينب» الزوجة ورفيقة العمر والدرب فكانت تقرأ القرآن من مصحف بين يديها.

عندما جلست بجوارها فتحت حقيبة يدها وأخرجت مظروفا وناولتنى إياه وطلبت منى أعد النقود، كانت المبلغ 1950 جنيها، طلبت منى أن أعطيهم للأستاذ «طارق» والد زوج ابنتها وصديق «أبوالعز» لأنه هو الذى سوف يتولى دفع «التكاليف»، أية تكاليف؟ قالت أن الدكتور «رفيق خليل» صديق أبوالعز قد طلب من الأطباء المعالجين رفع جهاز التنفس الصناعى عنه، وأن المسألة ساعات معدودة، كانت «زينب» صائمة فلم تبل ريقها بقطرة ماء فشربت أنا كل ما كان متبقيا من زجاجة الماء، جاء مدير مستشفى القوات المسلحة يطمئن عليه وقال لزينب: «نحن عملنا كل ما بوسعنا.. إنها إرادة الله»، وجاء قائد المنطقة الشمالية، وجاء عمال ونقابيون من أصدقائه، لكنه كان قد غاب عن الوعى تماما، الآن يفصل بيننا حفنة من تراب الوطن، هل كان يضير الموت أن يتركك ساعة تحمل معك حفنة من تراب الوطن للجنة تزرع فيها شجرة تطرح أوراقا بعدد من أحببتهم وأحبوك؟ والله لا أبكيك وقد منحت الأطفال كلمات من الماء والدقيق.

ولم أجد إلا كلمات أحمد فؤاد نجم: «مسافر.. مسافر أيا سنـدبـاد/ وداير تلف الزمان والبلاد/ مسافـر لأنك لقيت الحقيقـة/ مسافـر لأنك عرفت المعاد». أثرثر باسمك الآن بينى وبين نفسى، كانوا معك، العمال كانوا معك، وبشر يخرجون من شقوق الأرض، الجوعى والعرايا كانوا معك، لم يكن معك إلا الجوعى والعرايا والعمال وتلاميذ المدارس يتغنون بمفاتن الوطن المحرمة ويلوحون لك من بعيد فى سفرك، وأنت المسافر الآن وحدك: «وطال السفر.. يا صديقى الحبيب/ وكان الأمل فى اللقاء.. عن قريب/ أشوفك وأبوس ابتسامتك وأضمك/ أقولك همومى.. وأدوب جوه همك/ ونضحك.. ونحلم فى عز النهار/ وتضوى ابتسامتك.. ويحلا الهزار/ أقابلك مسافر.. فى نفس المسار». الآن تسافر وحدك، لا مركبات للغنائم فى وداعك ولا حتى خيولا للفجيعة، فهل حملت لنا الندى أم الدقيق؟ «مسـافر.. تودى الوداد للرفاقة/ مسافر.. تجيب الحليب للولاد».
تبتعد الآن عن الوطن لكن الوطن لا يبتعد عنك، ولا يبتعد عنك الشهداء، تسافر الآن بين الحصى والماء، بين العناء المباغت والظهيرة، تحمل الآن فى يديك الندى ورغيف خبز، متدثرا بالماء وقيظ العاشقين والتراب ودخان الذكريات وعصافير تناءت فى الرياح فحدثنا الآن عن حلاوة الماء وشهوة الحب للوطن وعنف الغضب من الفساد: «وطال السفر.. يا صديقى الحبيب/ وكان الأمل فى اللقاء.. عن قريب». ضجيج الهواجس يعلو تماما كضجيج خطاك، فهل يضيع الوطن؟ وطن كان عباءتك ودثارك الوحيد، وها أنت تخرج منه بلا دثار، فهل يكون موتك نهاية الحكاية أم البداية لحريق جديد؟ نهاية حكاية عن السـندبـاد.. بداية حكاية لناس ع الطريق»، وكل ما أعرفه الآن أنك الآن تذهب فى دقيق الفقراء وفى عروقنا كبرياء.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة