ذكرنا فى المقال السابق أن الأحاديث النبوية فى مجملها ليست عامة الخطاب، ولا متجاوزة لحدود الزمان والمكان بصورة مطلقة، وإنما هى ذات طابع خاص أو مرحلى ومؤقت، ولذلك فإن المتأمل لمواقف المسلمين إزاء الأحاديث النبوية يستطيع أن يلحظ بوضوح أنها حين بقيت بين سامعيها من الصحابة، أو حين انتقلت إلى من يشابهونهم أو لا يبتعدون عنهم كثيراً من حيث الظروف والأحوال والمستوى الفكرى والثقافى لم تظهر أى مشكلة فى قبولها، بل كانت ذات أثر إيجابى عميق فى حسن إيمانهم وأخلاقهم وإصلاح جميع مجالات حياتهم، ولم تظهر المواقف المعبرة عن عدم قبول بعض الأحاديث إلا عندما شاع الحديث النبوى فى إطار ظروف وأحوال وبيئة ثقافية وفكرية مغايرة للظروف والبيئة التى ورد فيها الحديث عن رسول الله، والسبب فى ذلك يرجع بصورة أساسية إلى كون الأحاديث النبوية فى مجملها تحمل درجة من الخصوصية، وامتدادها الزمانى والمكانى نسبى.
إن عمومية خطاب القرآن الكريم وامتداده الزمانى والمكانى المطلق يحتم وجود خطاب آخر يتسم بالخصوصية والمرحلية، لاستخراج وإيصال المضامين والتكاليف التى يحملها الخطاب القرآنى إلى مجموعة من البشر ضمن بيئة زمانية ومكانية محددة، وفى تقديرى فإن هذا هو ما تحمله مجمل نصوص السُنة النبوية القولية، وهى ما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بالتشريع، وقد بيّنا فى المقال السابق الفرق بينها وبين السُنة العملية، فهى جاءت لاستخراج مضامين من نصوص القرآن تتناسب مع الظروف والمصالح والبيئة الثقافية والفكرية التى عاش فيها النبى والصحابة فى مكة والمدينة، فمضامين نصوص السُنة القولية تشكلت وفقاً لعاملين أساسيين هما:
العامل الأول: خصوصية المخاطبين بالأحاديث النبوية، جيل الصحابة من حيث الطباع والمشاكل النفسية والأخلاقية والاجتماعية المنتشرة بينهم والمهمة الموكلة إليهم، فجاءت الأحاديث التى تراعى هذا العامل تتخذ طابعاً وبعداً تربوياً شديد الخصوصية يتفق مع حال المخاطبين به واحتياجاتهم الإصلاحية والتربوية.
العامل الثانى: خصوصية الظروف والأحوال والموضوعات التى وردت تلك الأحاديث لمعالجتها، فجاءت الأحاديث التى تراعى هذا العامل تقيد بعض ما هو عام ومطلق فى القرآن، وتشرح نصوصه بما يتناسب مع هذه الظروف والأحوال، ولكن وفق مضامين أقل خصوصية، وأكثر امتداداً من تلك التى تراعى العامل السابق.
وحين تتغير خصوصية المخاطبين بالأحاديث أو تتغير الظروف والأحوال أو الموضوعات الخاضعة للمعالجة، فإنه يفترض أن المحمول المعرفى أو التكليفى لتلك الأحاديث القولية قد بلغ مداه، وأصبح من الواجب تجاوزه إلى مستويات معرفية جديدة تتفق مع حال المخاطبين بها، ومع الظروف والبيئة الثقافية والفكرية الجديدة، وذلك يتحقق بأمرين: إما بتأويل ألفاظ هذه الأحاديث بما يحقق هذه المواءمة إذا كانت ألفاظها تحتمل تأويلاً طبقاً لقواعد اللغة العربية، وإما بتطبيق فكرة النسخ إذا تعارضت مع العقل أو المصالح والظروف، بشرط ألا ينتج عن ذلك تعطيل لثوابت الدين الواردة فى القرآن الكريم.
وعلى الرغم من ذلك فإن فقه السنة القولية وعلل نصوصها تبقى قائمة، ويرجع إليها المجتهدون فى كل زمان لمعرفة آليات وقواعد التفاعل مع النصوص القرآنية والمصالح الإنسانية، فهى لا تُلغى أو تُهمل وإنما يختلف فهم نصوصها بما يتفق مع المستجد فى حال المخاطبين، أو فى الظروف والأحوال والبيئة المعاصرة، وينتقل تعامل المجتهد معها من دائرة اللفظ والنص إلى ما يستنتج منها من قواعد وآليات للاجتهاد.
ونحن إذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامى منذ نزول الوحى إلى لحظتنا الراهنة، وجدنا أنه مر بثلاث مراحل ثقافية ومعرفية متمايزة ومتفاوتة، من حيث الوعى والمعرفة والظروف التى كانت سائدة فى تلك المراحل، وبالتالى فإن مدى ملاءمة وانسجام نصوص السنة القولية قد اختلف من مرحلة إلى أخرى، وذلك على النحو التالى:
مرحلة صعود الفاعلية الثقافية العربية، حيث كان العرب مصدرا للحضارة والعلوم، وبدأت تلك المرحلة منذ نزول الوحى، واستمرت إلى ما بعد الفتوحات الكبرى، ودخول العديد من الشعوب غير العربية فى الإسلام، وكانت هذه المرحلة تنسجم إلى حد بعيد مع خصوصية ومرحلية مجمل الأحاديث النبوية، وبالتالى لم تظهر إشكالية فهم الأحاديث.
ثم مرحلة استمرار الفاعلية الثقافية الإسلامية مع حضور ثقافى وفكرى غير عربى وغير إسلامى، وفى هذه المرحلة اختلفت نسبياً الظروف والأحوال مع خصوصية ومرحلية بعض الأحاديث النبوية، وبالتالى ظهرت إشكالية فهم هذه الأحاديث فى ظل الأوضاع المستجدة وعدم مواكبتها لها.
ثم المرحلة المعاصرة، حيث التراجع الثقافى العربى والإسلامى، وفى المقابل الصعود المستمر للفاعلية الثقافية الغربية، وفى هذه المرحلة تعرضت كل الظروف والأحوال لتبدل جذرى وواسع، وبالتالى تفاقمت إشكالية فهم السُنة النبوية بوتيرة متزايدة.
وكان يجب فى المرحلتين الثانية والثالثة الانتقال من منطوق نصوص السُنة القولية إلى فقهها وعلل نصوصها، وذلك بغية الوصول إلى اجتهادات جديدة تناسب الخصوصيات والظروف المستجدة، ولكن مع الأسف لم يحدث ذلك وتفرغ معظم العلماء للدفاع عن النصوص، ومحاولة تبرير مخالفتها للظروف والبيئة الفكرية والثقافية بعلل وهمية وغير منطقية أدت إلى زيادة الرفض العقلى لها، بل ومع الأسف فإن بعض العلماء تعامل مع هذا الإشكال العقلى باعتباره دليل نقص إيمان، أو عدم توقير للرسول، أو دعوة لرفض السُنة النبوية، وفى الحقيقة إن الأمر بدأ بمجرد إشكاليات فى الفهم، ولكن مع إصرار معظم المشايخ والعلماء على التعامل مع ظاهر ألفاظ هذه الأحاديث انتقل الأمر عند البعض إلى رفض كامل للسُنة النبوية، بل والأسوأ من ذلك والذى أدى إلى تعقيد المشكلة أكثر وأكثر أن نصوص السُنة القولية بعد انقضاء زمان ومكان امتدادها، تصبح أشبه بالحاجز الذى يحول دون تجديد فهم القرآن، وبالتالى تحول دون الوصول إلى الكثير من العطاءات الكامنة فيه، مما يؤدى إلى جمود الخطاب الدينى بالكامل وعدم مناسبته للواقع.
وكل ما ذكرناه يفترض أن الحديث الذى نتكلم عنه والذى أُشكل فهمه صحيح بمعنى ثبوته عن الرسول، وتشريعى بمعنى أنه ينطوى على أمر دينى، لكن ومع الأسف فالجانب الأكثر إسهاماً فى تعميق إشكالية فهم السنة هو أنه مع التساهل الذى حدث فى قبول وتمحيص أحاديث الترغيب والترهيب، ومع الخلط بين السنة التشريعية وغير التشريعية، انقلب الكثير من الأولويات حتى أصبحت بعض الأمور الثانوية أكثر أهمية وأولوية وإلحاحاً عند البعض من أخطر وأهم التكاليف الشرعية، واتسعت الفجوة بين الدين والواقع، وتعزز الشعور بالغربة بينهما.
هذا وسوف أعرض فى المقال القادم إن شاء الله أمثلة من الأحاديث التشريعية الصحيحة، وأبيّن الطبيعة المرحلية والمؤقتة التى تتسم بها فى تناول بعض الموضوعات، فى مقابل الطبيعة العامة والممتدة التى تتسم بها آيات القرآن فى نفس الموضوعات.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة