فى الكتب القديمة يقول الفقهاء إن الدين النصيحة، وفى فضائيات هذا الزمن يقول الراغبون فى نفاق السلطان: النصيحة من الممنوعات، مثلها مثل المخدرات، أو أشد.
يروى الإمام مسلم عن تميم الدارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة- وكررها ثلاثًا- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». وتروى الصحف عن رموز السلطة، ونجوم إعلام السلطة، أن النصيحة أو النقد الذى يوجهه كاتب أو سياسى للحاكم لا تجوز، هى فعل يعاقب مرتكبه بالاتهام بالخيانة، والخوض فى شرفه وعرضه، وسبب يتيح للمذيعين والمحامين ملء أوقات فراغهم بتقديم البلاغات ضده، والتحريض على ضربه وسجنه.
الآن يجب أن تخاف، الخوف واجب فى وطن يصنف النصيحة للحاكم ضمن قوائم المحظورات، والممنوعات.
يتكلم كثير من الشباب، وينتقد عدد من الكتاب، ويبدى بعض السياسيين تذمرهم من أساليب الدولة فى إدارة بعض الملفات، يرفعون صوتهم بكلمات نقدية تهاجم بطء الأداء الحكومى، غياب الشفافية عند بعض الوزراء، ارتباك وضع الحريات، والتأخر فى تعديل قانون التظاهر، ويجتمعون غالبًا فى الإشارة نحو نصيحة واحدة تقول للدولة: لا تفرطوا فى التعامل الأمنى مع القضايا السياسية، فعلها من قبلكم فخرج الناس ضدهم.
يضع الكثيرون قوائم بالأخطاء، وينقدونها، ويشيرون إلى ضرورة إصلاحها تحت بند النصيحة الواجبة، لكن فعلهم- وللأسف- يرتد إلى صدورهم فى صورة اتهامات بالتخوين والعمالة، وكأن النصيحة فعل حرام، وكل المطلوب هو الضرب على الدفوف، والتغزل فى أى خطوة رسمية، المهم أن يرفع الكل شعار «كله تمام طبقًا لتوجيهات سعادتك يافندم».
منذ مئات السنين فعلوها، رفضوا النصيحة، وقتلوا صاحبها، لكنهم عادوا لتطبيقها مرغمين، فهموا أن الهوى الشخصى لا مكان له وقت الحديث عن مصلحة الأوطان، ليس مهمًا أن تنظر إلى مصدر النصيحة أو النقد الموجهة للرئيس، بقدر ما يهم أن تنظر للنصيحة نفسها، وتعلم أنه بدونها يسقط زعماء، وتنهار بلدان.
فى زمن مختلف، لكن تتطابق بعض من مشاكله، وتصلح بعض من نصائحه لاستعدال المعوج من أمور وأزمات نعانى بسببها الآن، كتب عبدالله ابن المقفع رسالة للخليفة أبوجعفر المنصور أسماها «رسالة الصحابة»، والمقصود بالصحابة هنا بطانة الخليفة وحاشيته ورجاله.
فى رسالته وجه ابن المقفع نقدًا للخليفة بسبب تقريب أوغاد الناس لعرشه، مما سبب حرجًا لخيار الناس وأبعدهم عنه، ونصح الخليفة بأن يختار أصحابه وبطانته، لأنهم زينة مجلسه، وأعوانه على رأيه، وأيضًا موضع كرامته. وحذر ابن المقفع فى رسالته من نفوذ المقربين من الخليفة، مطالبًا بتحجيمه ومراقبته، وضرورة تحديد العلاقة بين المسؤولين وعامة الناس، وطلب من الخليفة أن يقوم بعزل الضعيف الذى لا يستطيع القيام بعمله، وطالب ابن المقفع الخليفة بضرورة وجود قواعد ملزمة للقضاة حتى لا يحكم كل منهم وفقًا لأهوائه وآرائه الخاصة به.
ثم احتوى الجزء الثانى من رسالة ابن المقفع للحاكم على توضيح لطبيعة الطاعة، مؤكدًا أن العقد بين الأمة والإمام متى خرج عنه لا طاعة له فى أعناقهم، وفى نهاية رسالته نصح ابن المقفع الحاكم أن يكون صاحب نجدة ومشورة، وأن يكون شريفًا لا يفسد نفسه أو غيرها، وأن يتفهم أن إصلاح أحوال الرعية لا يأتى من أسفل بل من أعلى من الحاكم.
الزمن يكرر نفسه، كما لو أن كاتبه يستخدم الكثير من أوراق الكربون للنسخ، وما ذكره ابن المقفع هنا يصلح بشكل أو بآخر كنصائح مهمة يجب أن تسمعها السلطة الحاكمة فى مصر.
نحن فى حاجة إلى إعادة تجديد النخبة، فى حاجة إلى قرار رئاسى يبعد الأشرار عن دائرة الحكم، لكى لا يجد الأخيار حرجًا فى التقدم لخدمة هذا الوطن، نحن فى حاجة إلى عزل الضعيف، واعتماد الكفاءة معيارًا وحيدًا للاختيار، والحد من نفوذ من ظنوا أنهم رجال الرئيس.
كل نصائح ابن المقفع تصلح للزمن الحالى حتى إن لم يكن حاكمًا الآن فهو حاكم الماضى، أو لم تكن ظروف الآن كما ظروف الماضى، لكن تبقى المشكلة الوحيدة المتكررة فى هؤلاء الذين رأوا نصائح المقفع خيانة، وتهمة تستدعى قتله، ونسختهم المحدثة التى ترى الآن كل صاحب نصيحة نقدية للسلطة خائنًا وعميلًا.
قبل الختام:
بعضهم سأل ابن المقفع عن سر إصراره على نصيحة الحاكم فرد قائلًا: «صاحب الرأى يجب أن يذكر ويخبر أولى الأمر بما يراه فى مصلحة الأمة من آراء، قد يكون لها أثر فى الإصلاح»، النصيحة واجب، وليست خيانة.. تلك هى الخلاصة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة