كانت السفينة «أرياس» تحصل على حمولاتها من الإعلانات فى الموانئ التى تمر بها، لذلك فإن «أرياس» وإن كانت ملك شركة ملاحية من «بنما» إلا أنها كانت تحمل علم «البرتغال» لأن مكتب الشحن صاحب الحمولة هو «مكتب شحن ما وراء البحار البرتغالى»، بعد أن تناولنا طعام الغداء فى وقت الراحة تفرق البحارة هنا وهناك لتدخين السجائر وشرب زجاجات البيرة، كان «ألبرتو ألفاريز ريجاردو» يمسك بزجاجة البيرة قابضا على عنقها فى يد والسيجارة فى اليد الأخرى وهو يحدثنى عن ميناء «ليسبوا» الذى جاء منه وفهمت أن ميناء «ليسبوا» هو نفسه ميناء «لشبونة» وهو الميناء الذى جاء منه، كانت فكرة جيدة أن كف المطر عن الهطول، بالرغم من أننا كنا فى نهاية الأسبوع الأخير من شهر يوليو؛ فقد كان المطر غزيرا طوال ليلة الأمس وحتى نصف نهار اليوم، وكان تفسير «ألبرتو» لهطول المطر فى مثل هذا الوقت من السنة - بصفته البحار القديم - هو تقابل رياح دافئة مع أخرى باردة يؤدى إلى صعود الهواء الدافئ فوق البارد، وقال إن كل البحارة يعرفون ذلك، وكف المطر عن ضرب سطح السفينة وظهرت الشمس فى السماء بوضوح، وبالرغم من موجات الرياح الباردة فقد كانت أشعة الشمس تغمر سطح السفينة فيختلط الدفء ببرودة الرياح، فكنت تشعر بنشوة تجتاح جسدك لا تعرف سببها، غير أن زجاجة البيرة التى أصر «ألبرتو» على أن أشربها معه كانت ساخنة أو على الأصح غير ساقعة، مما دفع «ألبرتو» بأن يمنحنى سيجارة حتى يتعادل طعم البيرة مع طعم الدخان.
كانت هذه هى المرة الأولى التى أدخن فيها سيجارة بدون فلتر، عندما راح صديقى البحار القديم يسهب فى الحديث عن ميناء «ليسبوا» وعن برج «تورى دى بيليم» الذى يشبه القلعة وعن نهر «تاجوس» الذى يأتى من عمق «إسبانيا» ليصب فى ساحل «كوستا دى كابريكا»، فى هذه اللحظات عرف أن السفينة «أرياس» سوف تدخل ميناء «بنزرت» فى تونس مع غروب الشمس، ولن تستطيع المغادرة إلا بعد خمسة أيام كاملة على الأقل نتيجة لبعض الإجراءات الإدارية التى لابد من اتخاذها قبل السماح لها بمغادرة الميناء، وبذلك سوف ندخل إلى ميناء «لشبونة» فى نهاية الأسبوع الأول من شهر أغسطس 1966، وما أن رست «أرياس» على رصيف الشحن فى ميناء «بنزرت» حتى فوجئت بصديقى «ألبرتو» يطلب منى بنبرة حاسمة أن أغير ملابسى التى أرتديها بملابس نظيفة فسوف نقضى سهرة ناعمة فى «بنزرت»، ولما كنت لم أفهم معنى كلمة «سهرة ناعمة» فقد سألته ما هو المطلوب منى غير تغيير ملابسى؟ فلم يجبنى وبدأ على الفور فى تغيير ملابسه، كان بار «هانيبال» فى ميناء «بنزرت» ضيقا بصورة لافتة، كما كان خاليا نوعا ما، ومظلما، بحيث كانت كل الإضاءة فيه تأتى من مصباح كهربائى بدا كما لو كان بيضة كبيرة معلقة فى السقف وتحديدا فوق النصبة الرخامية التى كان يقف خلفها رجل عجوز لم تفارق الابتسامة الودودة شفتيه حتى انتهت الليلة، لم يكن فى بار «هانيبال» سوى ثلاثة رجال بدا عليهم أنهم ليسوا بحارة ويمكن اعتبارهم من عمال الميناء الذين يعملون على أوناش الشحن والتفريغ، فبالرغم من الضوء الخافت بدت البقع الداكنة على ملابسهم، وعندما دخلنا من باب البار تفرسوا فينا، لكن سرعان ما رد البحار القديم «ألبرتو» على نظراتهم بإلقاء التحية عليهم باللغة الفرنسية: «بونسوار»، ثم قال: «جى سوى ألبيرتو ألفاريز ريجاردو دى برتغال، إى سيت مونامى دى ليجبت»، وفهمت بمعرفتى البسيطة باللغة الفرنسية أنه يعرفهم بنا، وللمذكرات بقية.