كثيرًا ما اعتبروا عاطفتنا نقيصة ونقطة ضعف تحول دون تحضرنا ولحاقنا بالعالم المتحضر، فيما سبق قرأنا كثيرًا من الآراء التى تتهم المسلمين وسكان الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط بأن عواطفهم جياشة وأن ذلك يحول بينهم وبين اتخاذ قرارات صائبة نحو إقرار العدل والحيادية وتجعلهم يدورون فى فلك هوى النفس والبعد عن إحقاق الحق.
وفى هذه الآراء بالطبع جزء كبير من الحقيقة التى أعلنت عنها كثيرًا خلال مقالات سابقة لى وأعتبرها بالفعل نقطة ضعف وآفة ابتلانا بها الزمن واختصنا بها المولى عز وجل عن غيرنا من الشعوب وكنت أقول لكل من حولى طالما احتكمنا لهوى النفس والعاطفة فلن ننجو أبدًا مما نحن فيه وذلك لأننا وخاصة فى الدول العربية نعشق شيئًا اسمه العواطف ونحكمها فى كل قراراتنا بكل جور وظلم فإن ضبطت مثلًا موظفًا فاسدًا وأردت أن تعاقبه قبل "لك حرام عليك اتركه وسامحه هذه المرة فعنده كوم من العيال وهذا العقاب فى الحقيقة لهؤلاء الأطفال وتلك الأسرة وليس لشخص الفرد" وترى الضغوط تنهال عنك من كل صوب وحدب هذا إن لم تتركه أنت من تلقاء نفسك وتحدث نفسك بما حدثك به الآخرون وهذا بالتأكيد يجعل أُناسا آخرين يجترأون نفس الإثم، الذى فعله زميلهم والفرار من العقاب سهل وحجته موجودة مثلما فعلوا مع الآخر والقياس على مثل هذا المثل كثير ونماذجه لا تعد ولا تحصى فى مجال فساد الذمم والتهاون والحكم بمكاييل كثيرة.
ولعل ظاهرة التسول و"الشحاتة" وانتشار الشحاذين فى كل شوارعنا هى أصدق ما يمكن أن نعبر به عن عاطفة ابتزاز جيوب المواطنين وادرار عطفهم من أجل إعطاء من لا يستحق مالا يستحق وتأكيد على أن عاطفتنا أقوى من أن تقاوم خداع متسول صار يذهب وييجى أمامك يكذب عليك ببضع جمل مأساوية ورغم أنك تعلم أنه كاذب إلا أنك تبادر وتعطيه من جيبك أخر مليم بدافع المساعدة.
وما نشاهده يوميًا من ظاهرة مساعدة الغير ممن لا نعرفهم فى الشوارع والطرقات خير شاهد أيضًا على أننا شعوب عاطفية تدب فى عروقنا نخوة الشهامة وإغاثة الملهوف مهما حدث من عواقب ومهما تعرضنا له من مآس رغم أننا قد لا نعرف من ننقذه وبالتأكيد تعرض البعض منا لعملية نصب وسرقة بسبب خناقات وهمية وادعاءات وجلبة بمجرد أن تصبح بداخلها إلا وتتعرض لسرقة متعلقاتك وفى النهاية وبعد اكتشافك الحيلة لا تملك إلا الابتسامة وتسامح فيما حدث لك وترفض أن تتوجه إلى قسم شرطة تحرر محضرًا وتستعوض الله فيما تعرضت له من مكر وخديعة وكل ذلك بدافع التسامح ومصداقًا للمقولة الشهيرة "قدر الله وماشاء فعل.. كويس إنها جت على أد كده".
اليوم ونحن فى عام 2015 نقرأ أخبارًا تقول إنه فى أمريكا ظهرت وظيفة جديدة اخترعتها سيدة تدعى "سامانثا هيس" تسمى مهنة "المطبطباتى" افتتحت له صالونًا للعلاج به فى مدينة بورتلاند بولاية أوريجون للعلاج بالأحضان والطبطبة وتقول السيدة هيس عن ذلك".. إن أكثر ما يميز دول حوض البحر المتوسط الجوانب الدافئة وهو ما تقتقده الحياة الأمريكية بإيقاعها السريع وماديتها ونمطها الفردى الذى يشجع الإنسان منذ طفولته على أن يعيش لنفسه ويسعى لتحقيق أهدافه فى الحياة وصولًا للنجاح المادى وعندما يحقق هذه الغاية فإنه قد يجد نفسه وحيدًا ولا يجد حوله من يهتم بأمره.." هذا مقتطف من حديث السيدة "سامانثا هيس" المواطنة الأمريكية التى علمت أهمية العواطف فى حياة البشر لأنها من أصول إيطالية متأثرة بدول حوض البحر المتوسط فعلمت أن النجاح المادى يخلف معه أثار سلبية ومخلفات جسيمة تحتاج إلى مجتمع قريب للإنسان قد يتمثل فى أسرته أو أصدقاءه ليفرغ عندهم هذه الشحنة ثم بعدها يواصل الطريق، وهذا ما تفتقده العواصم المتحضرة فى العالم فقد شاهدت حلقة من البرنامج الرائع "خواطر10" للرائع أحمد الشقيرى التى صورها فى اليابان وأمريكا وشرح فيها كيف أن المجتمع المتقدم رغم ما يغرينا به من مميزات نتحسر عليها إلا أنه مجتمع فى حقيقة الأمر مفكك ومهلهل يفتقد إلى وجود الأسرة التى تحتوى كثيرًا من البلاوى فقد شاهدت خلال الحلقة أمهات وآباء وشباب يعيشون داخل حدائق ومتنزهات عامة داخل العاصمة اليابانية طوكيو لا يعلمون عن أبنائهم ولا أسرهم شيئًا ومنهم من لا يعرف له أسرة وكذلك فى أشهر المدن الأمريكية المتحضرة يعيش هؤلاء تحت الأرض فى مجارى الصرف الصحى فى عالم مختلف تمامًا عما فوق الأرض ليس لديهم أسر ولا عائلات وحين تحاور الشقيرى مع إحدى السيدات قالت أنها لا تعلم عن أبنائها شيئًا غير أنهم مازالوا على قيد الحياة وأثنت على الإسلام لأنه يحافظ على وجود الأسر مترابطة وكذلك فعل رجل يابانى مسن حين قال له إنه يعلم أن الإسلام جيد لأن به ترابط وعلاقات إنسانية، أما هنا فى اليابان فلا يوجد مثل ذلك.
لقد من الله علينا بنعمة الإسلام التى يتضح لنا يومًا بعد يوم أنها المسار الصحيح للإنسانية مهما بلغت من تحضر وتقدم لأنه وببساطة بالغة هو أصل هذا التحضر الذى أوجده رسول كريم منذ أكثر من 1400 عام واضعًا بين يدينا دينًا يحث على التسامح وإرساء قواعد الأسرة والترابط والعاطفة التى ميزت أمة محمد عن غيرها من الأمم ورغم ما يسارع به الغرب من سير نحو آفاق التكنولوجيا والتقدم إلا أن تلك الحضارات تكتشف مع كل ذلك أن العاطفة والترابط التى فككتها تلك المسارات المتقدمة وتلاشيها أشد خطرًا من أى خطر أخر لذا فهم يتلهفون لأن يجدوا من يطبطب عليهم ويوفر لهم حضنًا دافئًا يلقون بداخله "بلاوى" نفوسهم وترسيبات عقولهم خشية الجنون أو الانتحار فما فائدة كل هذا المال والثراء الفاحش والنجاح إن لم يصرف عنه آلام الوحدة وعذاب الانتباذ والانطواء فنحن فى النهاية بشر من لحم ودم وإن خالفنا سنة الله فى خلقه فإن الميزان يختل ولن نستريح إلا بالعودة إلى طبيعتنا الإنسانية فالحمد لله الذى أتم علينا نعمه وأصطفانا من بين عبادة بالرحمة والتراحم والتسامح والترابط والحب والمودة وعلينا أن نقر أن كل شىء خلق بمقدار فإن شططنا فيه حولناه إلى نقيصة وإن قللنا منه اختلت الطبيعة فالعيب ليس فى العاطفة، وإنما فى هوى النفس، الذى يستخدم تلك العاطفة فى الإضرار بعباد الله والتجنى عليهم بما لايرضاه الله لنا، ولذا فإن العاطفة مثلها مثل غيرها من الصفات استعمالها فى غير ما خلقت له آفة ومضرة واستخدامها بقدر الحكمة من وجودها خير ونعمة.
وفقى فكرى يكتب: عواطف الشرق الأوسط وأحضان أمريكا
السبت، 10 يناير 2015 03:15 ص
صورة أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة