من المحيط للمحيط ومن كندا للمكسيك تتمدد الولايات المتحدة من الشرق للغرب ومن الشمال للجنوب، وقد شاء القادر- سبحانه- أن يصرف لها من الموارد الطبيعية ومن التنوع المناخى ما قد يعوض نقص التاريخ! ذهبت- كما حكيت من قبل- فجر يوم يونيوى وأخذتها «تخريمة» على الطريق رقم 5 الممتد من أقاصى الشمال إلى أقاصى الجنوب فى الغرب الأوسط.. كانت السيارة فولفو والصحبة ثلاثة صديقى وصهرى جابر حجازى وأخته زوجتى وزوجته سو الكندية من أصل أمريكى، إذ هى من فينكس بأريزونا!.. وكانت التعليمات: «حقيبة صغيرة، ووقت أى تسوق فى أى محل لا يزيد على ربع ساعة!».. وكانت القيادة تستمر لعدة ساعات وتقوم سو بدور الملاح، حيث الخريطة وتحديد أماكن التوقف والمبيت، فيما قمت أنا فى رحلة أخرى بأوروبا بدور الملاح حيث انطلقنا من فرنسا إلى سويسرا ثم ألمانيا وصولا لفيينا بالنمسا ثم العودة من طريق آخر، حيث دخلنا فرنسا من إقليم شامبين ومدينة شالون!
تعلمت أن الاستمرار فى القيادة والمثانة ممتلئة قد يؤدى لأضرار خطيرة، وعرفت أن خلع شعيرات من تجويف الأنف بقوة كفيل بتطيير النوم من العيون أثناء السواقة، وأيقنت أن صوت سارينة الشرطة من ورائك تعنى أن تتوقف فورا على جانب الطريق وتفتح الشباك وتجعل يديك ظاهرتين ولا تحركهما بأى اتجاه، حتى لو كنت ستحضر الأوراق من التابلوه، لأنك قد تتلقى رصاصة فورية! وشفت تليفون الطوارئ فى كابينته فى مسافات محددة وتستطيع أن تستدعى المساعدة منه، كما تعجبت من بشر يقودون سيارات نصف نقل رجل أو امرأة يرتدى أو ترتدى ملابس مناسبة للطقس، وبالسيارة كلب مدرب، ويخرجون للسير فى الطرق متطوعين لمساعدة أى حالة تحتاج المساعدة!! وأدركت أنك إذا اقتربت دون استئذان من أرض لا تخصك فمن حق صاحبها أن يفرتك جسدك لأنه يعتبرك معتديا على ملكيته الخاصة!
ومن فانكوفر إلى ولاية واشنطن ثم مونتانا وبعدها إيداهو ثم يوتا وبعدها نيفادا فأريزونا ثم كاليفورنيا ثم المكسيك والعودة من طريق أرويجون بعد كاليفورنيا إلى «ويست بانك» الضفة الغربية من كولومبيا البريطانية.
صرف رب العزة وولى نعم الكون للولايات المتحدة تنوعا فى الطقس فيه الصحراوى القارى، وفيه المتجمد، وفيه البارد وفيه المعتدل.. ومن ثم فلديها تنوع فى الغطاء النباتى يتوزع بين الغابات الباردة حيث الصنوبر والبلوط وبين بساتين المتوسط حيث الموالح والكمثرى وما شابه، والبارد حيث التفاح والقسطل والكرز والجوز وما شابه، ثم المحاصيل من قمح وشوفان وبطاطس وذرة وإلى آخره، يعنى سعادتك مافيش جنس حاجة غير موجودة هناك، ناهيك عما فى جوف الأرض من نفط وثروات وما فى جوف البحار من ثروات سمكية وغير سمكية، وثروات أخرى بغير حصر!.. فإذا انتقلت للثروات التى راكمها العقل الإنسانى فعليك أن تحدث بغير توقف ولا حرج، وإذا زرت وادى السليكون حيث تتكحل عيناك بلافتات آبل وسونى وغيرهما، وإذا زرت الجامعات والمتاحف والمسارح فإنك ستفتح «تفغر» فمك ولا تقفله!
فى الولايات المتحدة موارد طبيعية وبشرية وإمكانات بغير حدود، وعلى كل من يراهن أنها سوف «تشطب» مبكرا «تشطب بدرى» أن ينسى إلى أمد غير منظور!
وقبل أن أستطرد فى الموضوع أحكى طرفا من طرائفى الشخصية فى بعض رحلاتى لأمريكا.. إذ بعد أول واقعة، وهى نسيان ماركة السيجار الكوبى على ما أحمله منه واندفاعى لتمزيقها والتهامها كدليل اتهام على التهريب والكذب معا!!- فالآن ومنذ أيام انتهت المعركة بين الحوت الأمريكى والبسارية الكوبية التى صمدت ونمت وتقدمت ولديها أرقى صناعات الدواء من غير حوجة للأمريكان طيلة ما يزيد على خمسين عاما- كانت الواقعة الثانية وهى أننا ونحن فى نيويورك ألقينا الحقائب فى فندق «هوليداى إن» بشارع «وول ستريت» ثم انطلقنا وكنت مرهقا للغاية، وقرر من معى أن نشترى بطاقات دخول المسرح الذى كان يعرض مسرحية «القطط» الشهيرة، وبالفعل اشترينا ودخلنا وانبهرت وبدأت أتابع وأركز فيما الممثلون يرتدون لباسا يجعلهم كالقطط ويتنططون فى الصالة، وإذا بى أغفل، ثم أصحو، وأحاول اليقظة بكل طاقتى إلا أن النوم أثبت أنه سلطان فعلاً.. ونمت سيادتك معظم العرض.. وكان أول قفشة من درجة الفضيحة للتندر طوال الرحلة!
ثم كانت الواقعة التالية، إذ دخلنا مطعمًا أمريكيًا معتبرًا لنأكل الـ«ستيك» الرهيب السميك المقطوع من لحم عجول «البلاك انجس» وعلى الـ«ستيك» بيض مقلى.. وقررت أن أطلب شرابا قبل الأكل وجاءنى الشراب فى كوب زجاجى صغير وقصير مثل كوبايات الشاى الفلاحى بتاعتنا، وطلبت تغييره بكأس طويلة، وتأخر النادل، فتوجهت للرجل الواقف على «النصبة» «البارمان» وما إن بدأت أرغى وأزبد على الطريقة التى نمارسها فى المحروسة إذ بالمعلم يلقى بالكوب الصغير بما فيه على آخر ذراعه، ويحضر كوبا ضخما وبدأ يصب المشروب إلى أن امتلأ بما يكفى لقتل فيل أو سيد قشطة ووجه كلامه للمحاسب «الكاشير»: «احسب عليه كاسين وبقية العشرة على حسابى»! ولأن الأفضل أن يقال جبان مائة مرة بدلا من الله يرحمه مرة واحدة، ابتلعت المشهد كله وحملت «المج» الكبير ولم أنطق.. وكان من معى يبتسمون وينتظرون رد فعلى.. بس وحياتك وكأنه لا أحد هنا!
أما الواقعة الثالثة فكانت فى ولاية أيداهو، إذ نزلنا فندقا لنستريح يومين وبعدها نستكمل، وقرر الرفاق أن يتجهوا لحمام السباحة الساخن: «سوف نسبقك!» وغيرت ملابسى وارتديت المايوه وعلى كتفى العارى فوطة ومضيت مع السهم، ومن سهم إلى سهم وصلت إلى باب فدفعته وإذا بى فى الشارع خلف الفندق ودرجة الحرارة اثنتين مئوية.. وحاولت أن أدفع الباب لأدخل فإذا به اتجاه واحد ولا يمكن فتحه من الخارج، وعلى يمينى كان الحائط الزجاجى الذى يظهر من ورائه الرفاق يبلبطون فى الماء الساخن، وعبثًا حاولت أن أرزع فى الزجاج الخارجى، ولم أملك إلا أن أدور مشيًا وأنا أنتفض حتى وصلت لباب الفندق بعد حوالى أربع دقائق شفت الزمهرير فيها بكل خلية فى جسدى!.. واتجهت مجددا للحمام وكانت تجريسة بقية الأسبوع إلى أن حدثت المفارقة اللى بعدها!
فى كاليفورنيا اتجهت إلى محمية «سيكويا» sequoia التى تقع فى المنحدرات الغربية لسلسلة جبال سييرا نيفادا، ويتراوح ارتفاع أشجارها من 50 إلى 80 مترا ووصل بعضها إلى ارتفاع 95 مترا ويصل قطرها إلى حوالى 17 مترا، وأشجار سيكويا هى أقدم كائنات حية مستمرة على وجه الكرة الأرضية، وفيها ما يصل عمرها إلى 3500 سنة، وتبدأ الشجرة فى إثمار بذور وهى فى عمر 12 سنة، وعندما صعدنا بالسيارة فى طريق يلتف صعودا كان الهدوء لافتا.. لا صوت إلا للريح واحتكاكات الغصون، أما البشر فكأنهم فى زيارة لغرفة عناية مركزة.. يمشون بهدوء وهم صامتون، لأنه لا وقت ولا ضرورة للكلام.. إنك تمضى بين عمالقة صامتين لأن 95 مترًا يعنى بناية من حوالى اثنين وثلاثين طابقا، وقد اقتربت من الشجرة العملاقة General Sherman.. أصبت بالذهول وهتفت من كل وجدانى كما سبق وكتبت «ربنا ما خلقت هذا باطلا».. ثم وجدت فاصلا بين جسم الشجرة ولحائها فدلفت منه وتقدمت خطوات ثم أخذتنى رجفة وبكيت وبدأت أقرأ بعض ما أحفظه: «لله ما فى السموات وما فى الأرض وإن تبدو ما فى أنفسكم أو تخفوه..» إلى أن ختمت «ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين».. ثم وجدت لسانى يقرأ الصلاة الأخرى التى قال السيد المسيح: «أبانا الذى فى السماء ليتقدس اسمك ليأتى ملكوتك لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم واغفر لنا خطايانا كى نغفر نحن للمسيئين إلينا ولا تدخلنا فى تجربة لكن نجنا من الشرير ليكون لك المجد والقوة للأبد آمين»!.. وخرجت من بين الشجرة وقشرتها لأشعر براحة وطمأنينة لم أشعر بهما من قبل، وإلى الآن أستدعى اللحظة لأتلمس الإحساس نفسه. ويبلغ ارتفاع الشجرة حوالى 84 مترا ويبلغ قطرها على مستوى سطح الأرض حوالى 32 مترا ويقدر وزنها بحوالى 1900 طن!!، وقد أخذت اسمها بعد الحرب الأهلية الأمريكية 1879 من اسم الجنرال وليم تكيومش شيرمان بواسطة عالم الطبيعة جيمس فولفرتون الذى خدم مع ذلك الجنرال!.. وإلى جوار الشجر العملاق تنمو الحشائش التى سبق أن كتبت عنها، ولكن ما يلفت النظر بشدة تلك الشجرة المسماة «nursing tree» أى الحاضنة.. والتى تقترب منها وهى ملقاة على أرض الغابة بعد أن طال عمرها وشاخت وجاء أجلها فاستلقت على الأرض وقد نبت فى جسدها أشجار أخرى!!، حيث تقع البذور من شقيقاتها وربما بناتها وحفيداتها على لحائها المتحلل فتنمو فيها وتعلو فيما الأم الحاضنة ممددة وقد شقوا نفقا فى جسدها يمكن أن تمر منه سيارة!
ومن هناك التقطت ثمرتين قديمتين ملقاتين على الأرض، إحداهما صغيرة والأخرى ضخمة وقد أفرغتهما من البذور وأضعهما حتى الآن أمام عينى فى مكتبتى! ونزلنا من سيكويا لنتجه إلى بقية الرحلة حيث الفوالق والغابات الصخرية.. آرش كانيون أى كانيون العقود الصخرية الملآن بأشكال من الأقواس المرتفعة الأشبه بالبوابات، ثم ريف كانيون، وزايون كانيون، وبرايس كانيون.. وفى أحدها كدت أن أصاب بالخبل، وأكرر الخبل خاء.. باء.. لام.. لأن المشهد بدا وكأننا نمضى فى مدينة ضخمة من البشر العمالقة المسخوطين إلى حجارة..
وللرحلة بقية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة