نحن ننظر إلى السماء كلما واتتنا الفرصة، وما من مرة ننظر فيها إلى السماء إلا ونشعر بالارتياح الكبير، نتأمل أشكال السحب وألوانها المتدرجة ما بين الأبيض الناصع والرمادى الداكن، نفتتن بلون السماء الأزرق إذا ما كانت صافية، نشعر بانقباض كبير إذا ما كانت السماء شاحبة، نراقب ـفعل الشمس فى بياض السحب ـوزرقة السماء، نتأمل الشمس وقت الشروق فيصيبنا السحر، نتأملها فى الغروب فيزيد سحرها ويتعاظم، وما أن تغيب الشمس تمامًا حتى تكتسى السماء بالنجوم، فيصبح السحر غواية، ويتحول الافتتان إلى فتنة كاملة الأوصاف، نشعر بأحاسيس بالغة القوة، ألوان السماء ومزيجها الفريد كفيلة بأن تعصف بحالتنا الشعورية، وتبدلها من حال إلى حال، الغريب أننا نشعر بكل هذه المشاعر ويمسنا كل هذا السحر دون أن نسأل أنفسنا عن السر.
نفس الحالة تنتابنا حينما نسمع الموسيقى المجردة، نغرق فى مشاعرنا دون أن تبوح لنا النغمات بأسرارها، فليس للموسيقى قواميس شارحة، ولا يستطيع أحد أن يخبرنا بمعادل «كلامى» للنغمات التى يسمعها، ونحن حينما نصف شعورنا بالموسيقى فنقول إنها موسيقى حزينة أو موسيقى مفرحة لا نصف «الموسيقى» إنما نصف «شعورنا»، وكلما زاد رُقى المستمع وزادت خبرته الموسيقية تضاعف شعوره بالموسيقى، واستمتاعه بها، دون أن نسأل أنفسنا: ما السر وراء هذه المتعة المباغتة؟
أسئلة كهذه كثيرًا ما تستوقفنى حينما أقرأ أو أسمع لمن يسخر من الفن التجريدى بشكل عام، وفن فاروق حسنى على وجه الخصوص. وفى الحقيقة فإن فاروق حسنى «الفنان» ظلم كثيرًا بمنصبه السابق كوزير ثقافة، وفى الحقيقة أيضًا فإن وجهة نظرى فى «فن» فاروق حسنى تأثرت كثيرًا بما كان يقال عنه كوزير، فكثيرون من أقرانه من الفنانين يكيلون له القدح، ويبخسون قيمته الفنية باعتباره منافسًا لهم، مدعين أن ما يباع من لوحات لفاروق حسنى لا ينبع من قيمته الفنية، لكن ينبع من منصبه، ويلمحون إلى أن لوحاته كانت «رشاوى» مقنعة من رجال أعمال مرتبطين بعلاقات وأعمال مع الوزارة، وبناء على هذا وصف الكثيرون لوحات فاروق حسنى باعتبارها «شخبطة»، وأصبحت عند بعض الناس مثالًا للسخرية، حتى أن بعض الشباب تهكموا على تلك اللوحات بفيديوهات انتشرت مؤخرًا على مواقع التواصل الاجتماعى تحت عنوان «كيف ترسم لوحة كلوحات فاروق حسنى وتباع بـ50 ألف دورلا»، وفى هذا ظلمان كبيران للفن التجريدى، وفن فاروق حسنى على حد سواء.
المشكلة الحقيقية تكمن فى أن الهجوم على فن فاروق حسنى بهذه الطريقة الساخرة تشوه مدرسة حقيقية من مدارس الفن التشكيلى وتوصمها وصمة أبدية، وهذه جريمة كبيرة يرتكبها الكثيرون دون أن يشعروا، فلم تنشأ مدارس الفن التجريدى عبثًا أو دون معنى كما يتخيل البعض، لكنها نشأت لتسد فراغًا كبيرًا فى حياتنا التشكيلية، نشأت بعد أن أيقن الفنانون أن كل ما هو مجسد محكوم عليه بالفناء، نشأت بعد أن ملّ العالم من الرسومات التشخيصية، وأصبحت تحمل الكثير من «الصنعة» والقليل من الموهبة والرؤية، نشأت بعد أن حاول الفنانون أن يصلوا بفنهم إلى لغة فنية عالمية، يشعر بها الجميع دون تمايز، نشأت بعد أن حاول الفنان أن يستخدم لغة تختلف عن اللغات المتعارف عليها، وأن يستخدم الألوان وفق مفهوم خاص، وأن يصل بريشته إلى ما لم تستطع عيناه أن تصل.
هذا ما يتعلق بالفن التجريدى بشكل عام، أما ما يتعلق بفن فاروق حسنى على وجه التحديد فقد أسهم فى تغيير وجهة نظرى عنه شيئان، أننى تيقنت منذ زمن طويل أنه يتعرض للكثير من الافتراءات الإعلامية، خاصة أنه حصل على الجائزة الأولى فى مهرجان كان سير مير بفرنسا 1972 أى قبل توليه الوزارة بخمسة عشر عامًا، وهى جائزة رفيعة فى مهرجان رفيع كان كبار الرواد من الفنانين يحرصون على عرض لوحاتهم فى جنباته– جاذبية سرى على سبيل المثال- وأما ثانى شىء فإنى قد علمت أن لوحات فاروق حسنى قبل توليه الوزارة كانت تباع بأسعار عالية مقارنة بعصرها، فقد اشترى الدكتور محمد أبوالغار، وهو أحد أهم مقتنى الفن التشكيلى فى مصر، إحدى لوحات حسنى فى أوائل الثمانينيات بألف جنيه للوحة، ويعد هذا الثمن غاية فى الارتفاع إذا ما قارناه بأسعار أكبـر رواد الفن التشكيلى وقتها أمثال عبدالهادى الجزار، وحامد ندا، حيث أكد لى أحد المقتنين أنه اشترى لهما لوحات فى 1985 بخمسمائة جنيه، فى حين تصل لوحات الجزار الآن إلى ثلاثة ملايين، كما تصل لوحات حامد ندا إلى مليون جنيه.
هكذا نتأكد من أن فاروق حسنى قد ظلمه منصبه مرتين، الأولى حينما نال كثيرًا من النقد الانتقامى من معارضيه كوزير للثقافة، والثانى حينما نال الكثير من المدح من شخصيات معروف عنها أنها تجيد نفاق المسؤولين ومداهنتهم، لكن فى الحقيقة فإنه يكفى فاروق حسنى «الفنان» فضلًا أنك نادرًا ما تخطئ فى نسبة لوحاته إليه، ويكفيه أيضًا أنه مازال بعد خمسين عامًا من الفن قادرًا على أن يغير من أسلوبه، وأن يبتكر ألوانًا جديدة من التعبير التجريدى والتجسيدى فى آن واحد، وخير دليل على هذا معرضه الأخير الذى شكل صدمة كبيرة لكل متابعى الفن التشكيلى فى العالم العربى، والذى وصلت فيه أسعار بعض لوحاته إلى 50 ألف دولار، وهو ما يؤكد أن سنوات الظلم الفنى التى تعرض لها حسنى قد بدأت فى الزوال، كما يؤكد أن منصب فاروق حسنى السابق قد أثر بكثير من السلب على مسيرته الفنية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة