أكدت لنفسى أننى فى بار «هانيبال» فى ميناء «بنزرت» وأننى أسمع ردا واحدا من عمال الشحن الذين قمنا للجلوس معهم - وكان على ما يبدو أكبرهم سنا - وهو يقول بالفرنسية: «بنفينيو أيوكس جينس ديمير بار هانيبال.. فينيز نو ريجوندر». وعندما جذب ألبرتو مقعدا وجلس وطلب منى أن أفعل مثلما فعل أدركت أن الرجل كان يرحب بنا ويدعونا للانضمام إليهم، حاولت أن أفهم الحديث الذى كان يدور أمامى باللغة الفرنسية غالبا، لكنى لم أستطع الفهم ليس لأن معرفتى بسيطة جدا باللغة الفرنسية، لكن بالإضافة إلى ذلك فإن الحديث كان يمر سريعا على أذنى، وفوجئت بألبرتو يقف صائحا فى البارمان فى نشوة غامرة وهو يطلب زجاجة كونياك «كورفوازييه» فرنساوى تحية لأصدقائنا الجدد، ورد البارمان العجوز رافعا كف يده بأصابعه الخمسة وهو يذكر ألبرتو بألا ينسى أن عليه أن يدفع خمسة دولارات أمريكية ثمنا لزجاجة الكونياك الفرنسية، وفى طريق عودتنا إلى السفينة أطلعنى ألبرتو على الوضع، ففهمت منه أن الفريق الوطنى البرتغالى لكرة القدم قد أبلى بلاء حسنا فى مسابقة كأس العالم لكرة القدم المقامة فى العاصمة الإنجليزية «لندن»، وأنه لولا انحياز الحكام للفريق الإنجليزى الذى يلعب على أرضه لما فازوا بكأس العالم مع أن الكابتن «يوزيبيو» الذى لا يزيد سنه على أربعة وعشرين عاما قد حصل على لقب «هداف كأس العالم» لإحرازه تسعة أهداف لكن الشعب البرتغالى منحه لقب «النمر الأسود»، وأن الفريق البرتغالى واصل البطولة حتى نهايتها وحصل على المركز الثالث بالرغم من خروج الفريق البرازيلى من الدور الأول للبطولة وكان ضمن المجموعة التى استطاع الفريق البرتغالى حسمها لصالحه.
فى هذه الليلة لم أستطع النوم مدة كافية، فقد بقيت فى محاولة مستمرة لمقاومة حالة الأرق التى أصابتنى ربما بفعل استغراقى فى تفكير عميق فى أبى وأمى وإخوتى وهاجمنى وجه «هناء» التى تركتنى وتمت خطبتها إلى زميلها فى الكلية فلم يكن من المعقول أن تتزوج شخصا رسب فى الثانوية العامة ثلاث سنوات متتالية بالرغم من أنه ابن عمتها، استسلمت لكل الوجوه التى هاجمتنى كما أننى استسلمت لأصواتهم التى كانت ترن فى مخى، كانت أصواتهم تتداخل مع بعضها، كما أن وجوههم كانت تتداخل أيضا فى بعضها، فما أن يتركنى وجه أمى حتى يتداخل معه وجه «هناء» متداخلا فى وجه أبى، لكن التفكير فيما حدث الليلة لصديقى البرتغالى كان يسيطر على، فقد بكى «ألبرتو» كثيرا هذه الليلة وهو يحدثنى عن أمه وأبيه وشقيقته التى لابد وأن تكون قد أنجبت ابنها الأول فقد تركها فى البيت وهى حامل فى شهرها الأخير، وأرجعت أنا سبب بكائه لكمية الكونياك الفرنساوى التى شربناها مع أصدقائنا من عمال ميناء «بنزرت»، لاسيما وأن رغبة ملحة فى البكاء قد ألحت على أنا أيضا، ففطنت إلى أن هذا لابد وأن يكون بتأثير الكونياك الفرنساوى الذى قالوا بأن اسمه «كورفوازييه»، وإلى الآن وحتى هذه اللحظة التى أحكى فيها عن هذه الأيام لا أعرف لماذا يكون «الكورفوازييه» سببا للبكاء، لكنى كنت أحس بدوار خفيف فى رأسى فلم أقاومه، كما أنى لم أقاوم الوهن الذى كنت أحسه فى مفاصلى، وانتابتنى رغبة خفية مفاجئة فى أن أتمدد إلى جوار «ألبرتو» على أرضية العنبر الذى كنا قد وصلنا إليه، كان سقف العنبر الكالح اللون يهتز فى تموجات تشبه تموجات السحاب فى تموجات انسيابية خفيفة، كما كانت الجدران تقترب منى ثم تبتعد فى نعومة فيما أحسست بأرضية العنبر كما لو كانت من الإسفنج الطرى مع أنى كنت متأكدا من أنها من الحديد الصلب المسحوب على البارد، وللمذكرات بقية.