تعد صحيفة «شارلى إيبدو» التى تعرضت للهجوم المسلح عليها من قبل الشقيقين كواشى، مما أدى إلى مقتل وإصابة 12 صحفيًا وشرطيًا، نموذجًا للصحافة الصفراء التى تهتم بالفرقعات غير المنطقية، والخبطات الصحفية العشوائية غير المبنية على أساس علمى، والصحيفة لها تاريخ حافل فى إثارة الجدل، واستفزاز أهل الأديان جميعًا، والإساءة للرسل والأنبياء والأديان.
وقد تعرضت من قبل للنبى محمد «ص» عام 2011 مما أثار موجة احتجاجات ضخمة أدت إلى إحراق مقرها، وتعرضت لملاحقات قضائية نجت من أكثرها بحجة «حماية حرية الصحافة»، وأن الصحيفة تنتقد جماعات إسلامية بعينها، وليس الإسلام.
وتعد هذه الصحيفة متخصصة فى الرسوم الكاريكاتيرية، وقد أساءت من قبل للسيدة مريم، وتصنف الجريدة على أنها يسارية مشاغبة، ولا توزع أعدادًا كثيرة، فلا يزيد توزيعها على 30 ألف نسخة، فى حين توزع بعض الصحف الفرنسية عدة ملايين فى كل عدد من طبعاتها، وتعليقًا على حادث الاعتداء على الصحيفة نود أن نقول الآتى:
أولًا: إن الإساءة للنبى الكريم جرم كبير وذنب عظيم، ومادام المسلمون يحترمون أديان الآخرين وأنبياءهم فعلى الأمم الأخرى، خاصة الأوروبية، أن تدرك حساسية الموقف بالنسبة لأعظم الرسل، أو على رأى الغزالى «كبير الرسل»، وأن يدركوا أن النبى خط أحمر.. نحن لا نرضى بالقتل ولا الدماء ولا التفجير، لكن على الآخرين أن يدركوا أنه ليس كل المسلمين عقلاء، وليس كلهم حكماء، وليس كلهم يقيس المصالح والمفاسد، وأن الشباب تطغى حماستهم على عقولهم، خاصة أن هذه الجريدة حرقت مرات، وأساءت مرات أخرى.
ثانيًا: الفكرة ترد بالفكرة، والرأى يرد عليه بالرأى، والكاريكاتير يرد عليه بالكاريكاتير، أما الرد على الفكرة بالرصاص، وعلى الكاريكاتير بالقتل فقد يضر الإسلام ولا ينفعه، ويشوه رسالته ويصمه بالعنف وعدم القدرة على الإقناع بالحجة والبرهان، وقد يسىء إلى رسوله الكريم، خاصة فى بلاد الغرب التى يجهل أكثرها الكثير عن الإسلام ونبيه العظيم، وكل أفكارهم عن الإسلام ونبيه الكريم تنبع من تصرفات المسلمين، وأحوال دولهم التى يكثر فيها الاستبداد والجهل والتخلف، والأمراض الاجتماعية والاقتصادية.
ثالثًا: لقد تحمل الرسول «ص» الأذى مرارًا وتكرارًا، وقيل له تارة ساحر وأخرى مجنون ومرات كاهن وأخرى كذاب فى مكة، ورغم ذلك لم يعاقب أحدًا من هؤلاء الذين قالوا ذلك، حتى بعد أن تمكن منهم بعد فتح مكة ووقفوا جميعًا بين يديه صاغرين قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» تغليبًا للعفو والصفح، ورغبة فى هدايتهم، وانتظارًا لأوبتهم.
رابعًا: لابد من تفعيل «فقه المآلات»، أى فقه النتائج قبل الرد على من يسىء للرسول «ص» أو الإسلام عامة، وفى بلاد غير المسلمين خاصة.
فهل قتل المسيئين، أو تفجير صحفهم أو حرقها سيجعل هذه الشعوب الغربية التى لا تعرف شيئًا عن الإسلام تتعاطف معه، أو تحبه، أو تدين به، أو تقف معه، أم أن العكس سوف يحدث؟!
أليس قتلهم سيضر الإسلام والمسلمين فى هذه البلاد، ويعطى قبلة الحياة لليمين المتطرف الذى يريد طردهم من أوروبا طردًا نهائيا؟!.. وقد يكون الحادث مبررًا لاضطهاد المسلمين فى فرنسا خاصة، وأوروبا عامة، وسببًا فى منعهم من حقوقهم، فالمسلم لا يكون مسؤولًا عن الفعل فقط، لكنه يكون مسؤولًا أيضًا عن نتائجه، خاصة إذا كانت هذه النتائج يستطيع أصغر سياسى أن يدركها ويقرأها.
خامسًا: سيقول البعض إن الرسول «ص» قتل كعب بن الأشرف اليهودى لما سبه وشبب- أى عرض- بنساء النبى «ص»، فأقول: أعتقد أن هذه قد تكون فتوى خاصة، وحكمًا دينيًا وسياسيًا صادرًا من النبى شخصيًا، خاتم المرسلين، ورئيس دولة المسلمين فى الوقت نفسه ضد مواطن فى دولته، غدر به وطعن فيه وفى أسرته بغير حق، ولا يستطيع أحد أن يقتل كل من أساء للرسول «ص» بهذه الحجة، وإلا أصبحت الدماء فى كل مكان، لكن الرسول «ص» كفر به كثيرون، وأشرك به كثيرون، وسبه كثيرون، وطعن فى رسالته كثيرون فى مكة، فلم يأمر بقتلهم، وبعضهم اتهمه بالسحر وآخرون بالكذب والكهانة.. وهذه «ثقيف» ضربته وآذته وسلطت عليه سفهاءها وغلمانها، ورغم ذلك رفض أن يدعو عليهم، ودعا لهم: «اللهم اهد ثقيفا وآت بهم»، وكان بإمكانه عقوبتهم، مما يدل على أن قتل كعب بن الأشرف كانت له خصوصية خاصة، ولا يسرى كما تظن «داعش» وأخواتها على كل من أساء للنبى «ص»، فليس كل من أساء للرسول أمر بقتله، لكن كل من أساء إلى الرسول إما هداه الله أو انتقم الله منه بطريقة أو بأخرى لقوله تعالى «إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ»، ولعل هداية الناس أحب إلى الرسول وإلى الدعاة من بعده من عذابهم فى الدنيا والآخرة.
سادسًا: إعمالًا لفقه المصالح والمفاسد نسأل: هل يصب قتل هؤلاء الصحفيين والرسامين الفرنسيين فى مصلحة الإسلام ونبيه الكريم، وفى مصلحة مسلمى فرنسا وأوروبا أم العكس؟، وهل سيحبب الناس فى الإسلام والنبى أم ينفرهم عنه؟، وهل سيقرب الناس من الهداية والهدى أم يباعدهم عنهما؟، وهل سيفيد مسلمى فرنسا أم التيارات اليمنية المتطرفة التى تدعو لطرد كل المسلمين الفرنسيين من الأصول غير الفرنسية من فرنسا؟، وهل سيزيد شهرة الجريدة أم سيقلل توزيعها؟.
لقد تطوع «جوجل» لطبع الجريدة للعالم كله، وتطوع البعض لطبع مليون نسخة منها بداية من العدد المقبل، وهى التى لم تكن توزع أكثر من30 ألف نسخة؟، وبعد أن كانت مكروهة للفرنسيين حمل الآلاف شعار «كلنا شارلى إيبدو».
وهل سيمثل الحادث ذرائع جديدة لحرب الإسلام والمسلمين والتدخل فى شؤون بلادهم أم لا، ويكرر سقوط الأبراج عندنا، والتى تلت سقوط برجى التجارة الأمريكى، وهما برجا أفغانستان والعراق اللذان سقطا بالاحتلال والتمزيق والتفتيت؟!
سابعًا: حينما ثارت قضية الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول «ص» قام بعض المسلمين بمقاطعة الدنمارك، وبعضهم قام بحرق بعض الممتلكات الدنماركية أو مقاطعة منتجاتهم، لكن حينما ذهبت نخبة من علماء ودعاة الإسلام إلى الدنمارك وزاروا البرلمان الدنماركى، وتحدثوا عن الرسول وعبقريته ورحمته وتسامحه وعفوه وصفحه وأخلاقه، انبهر الشعب الدنماركى، وقال نواب البرلمان وقتها: «كنا نريد منكم أن تحضروا إلينا لتعرفونا بنبيكم بدلا من شتيمتنا جميعًا بذنب واحد منا»، وبعدها أسلم الكثيرون من الشعب الدنماركى، وبنى أول مسجد كبير بمئذنة فى كوبنهاجن وغيرها.
ولما كثف الدعاة والعلماء الدعوة والتعريف بالرسول «ص» بعد عرض الفيلم الأمريكى المسىء للرسول الذى أنتجه الهولندى أرنولد، غيّر كثير من الأمريكيين والهولنديين فكرتهم عن الإسلام ونبيه العظيم، وأسلم فى النهاية ذلك المنتج الذى أساء للنبى، وحج بيت الله الحرام فى العام الماضى طائعًا مختارًا دون رصاص ولا قنابل أو متفجرات، وقال إننى سأنتج فيلمًا عن عظمة الرسول محمد «ص».
ثامنًا: إن الدعوة إلى الله أقوى من الرصاص، وإن القلب الذى يحب هداية الخلائق أمضى أثرًا من السيف، خاصة أن الغربيين لهم قواعدهم فى حياتهم الخاصة، وأكثرهم يجهلون تمامًا ما يحويه هذا الدين العظيم من خير وبر ورحمة للناس.
تاسعًا: أعتقد أن الدافع الحقيقى وراء دخول الفرنسيين الثلاثة، وغيرهم من الأفارقة العرب الفرنسيين لتنظيمى «داعش» و«القاعدة» هو التهميش الذى يعانون منه، حيث يعيشون فى أحياء عشوائية فى ضواحى المدن، ويعانون من شظف الحياة وبؤسها، ويعانون من النظرة الدونية من الفرنسى الغربى الأصلى الذى يتمتع دونهم بكل الخيرات، وينال كل الحقوق.
إن انخراط أمثال أحمد كوليبالى والأخوين كواشى وأمثالهم فى تنظيم مثل «داعش»، لأن التنظيم يعطيهم قدرًا وقيمة ويجعل لحياتهم معنى، ويربطهم بهدف كانوا يحتاجون إليه بعد غياب الهدف والقيمة من حياتهم، ويجعلهم يعيشون على مُثل يرونها صحيحة، حتى إن كان فيها القتل والتفجير بدلًا من حياة الركود والدونية والغرق فى ملذات تافهة.
إن المهمشين الذين ليس لديهم مشروع للحياة عادة ما يؤثرون مشروع الموت لهم أو لغيرهم، خاصة إذا وجدوا فكرًا دينيًا يدفعهم لذلك، ويربطهم بالجنة الموعودة، حتى إن كان هذا الفكر خاطئًا.
ومنفذا الهجوم، وكذلك كوليبالى كانوا مساجين جنائيين فترة، وقبلها كانوا لاهين عابثين، وهؤلاء وجدوا الوجاهة والرسالة والمجد الدنيوى والأخروى- حسب ظنهم- فى أن يكونوا مجاهدين فى «داعش» و«القاعدة» بدلًا من أن يكونوا ضائعين فى الحياة، أو مجرمين جنائيين فى السجون الفرنسية، أو لاهين عابثين فى الحياة.. إنها أزمة الفكر الإسلامى الوسطى الذى لم يقدم حتى اليوم مشروعًا للمسلم، يصلح به دنياه بتعاليم دينه، ويربط حياته بتعاليم السماء، ويعلمه فقه الحياة الصالحة بدلا من فقه الموت والتفجير.
عاشرًا: أما فرنسا الدولة، فهى علمانية غير متسامحة مع الأديان، فى حين أن بريطانيا دولة علمانية،
لكنها متصالحة مع الأديان، حتى أن الملكة نفسها هى راعية الكنيسة الإنجيلية، كما أنها ترعى كل اللاجئين المسلمين من كل الدول الإسلامية مهما كانت توجهاتهم الفكرية فى منظومة سياسية ذكية.
حادى عشر: فرنسا لديها ازدواج معيب فى المعايير، ففى الوقت الذى رفض فيه القضاء الفرنسى وقف الجريدة من قبل لإساءتها لأنبياء كثيرين، وذلك عملًا بـ«الحق فى حرية التعبير»، تجد أن الدولة نفسها تحاكم كل من يشكك فى عدد اليهود الذين قتلوا فى الهولوكست، فما بالنا بالذى يشكك فى حدوث الهولوكست نفسه؟!، فقد عاقبت فرنسا روجيه جارودى، وهو من كبار المفكرين الفرنسيين ومن رجال الدولة الفرنسية، لأنه شكك فى عدد القتلى اليهود فى الهولوكست، وذلك طبقًا لقانون «جيسو» المعيب، وهل الهولوكست وعدد قتلاها لها عصمة أعظم من عصمة الأنبياء، ولها قدسية أكبر من قداسة الأنبياء؟!، مع أنها لا تعدو حدثًا تاريخيًا عاديًا، لكنه التعصب الممقوت وازدواج المعايير.
ثانى عشر: الغرب يريد توظيف الحدث سياسيًا، وأن يستخدم شعار محاربة الإرهاب كحصان طروادة للولوج إلى العالم العربى، والتدخل فى شؤونه لمحاكاة أجواء 11 سبتمبر فى أمريكا.
ثالث عشر: الغريب أن فرنسا حذرتها المخابرات الجزائرية من عمل إرهابى وشيك، كما أنها كانت تحتجز إلى وقت قريب منفذى الحادث، ولهم سجل فى المخابرات الأمريكية والفرنسية كإرهابيين، كما أنه من الغريب أن صحيفة كهذه ليست فيها كاميرات مراقبة، فى حين أن أقل مطعم فى باريس فيه كاميرات.
إننى أخشى أن تكون فرنسا قد أرادت التخلص من الجريدة ومشاغباتها وكذلك التخلص من الأخوين كواشى ومسلمى فرنسا بالمعرفة بالحادث وتركه يمر، رغم أننى لست من هواة نظرية المؤامرة، لكن توقع استهداف الصحيفة يدركه أصغر ضابط فى المخابرات الفرنسية، فهل علمت الأمر ثم تركته يمر
لتستفيد منه إعلاميًا وسياسيًا أم ماذا؟!
رابع عشر: فرنسا هى بلد ازدواج المعايير، فهى التى شاركت بقوة فى دعم وتسليح وتمويل «داعش» حينما كانت تقاتل بشار الأسد، وتحارب بالوكالة النفوذ الإيرانى فى المنطقة طبقًا للمشروع الغربى التركى الخليجى، مما أدى إلى خراب سوريا، وقتل عشرات الآلاف، وتشريد ملايين السوريين، وجرح مئات الآلاف، فضلًا على تدمير سوريا كلها جيشًا ووطنًا وشعبًا حرًا.
وحينما قتل الأخوين كواشى 12 فرنسيًا أقامت فرنسا الدنيا وأقعدتها، فلم تستيقظ إلا حينما نالها التطرف والإرهاب، ولم تشعر بالدماء التى كانت سببًا فيها بتدخلها فى الشأن السورى، بدلًا من حقن الدماء، والتوصل إلى حل سلمى للأزمة مبكرًا، لقد رضيت من قبل أن تحارب «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما فى البلاد العربية بالوكالة عنها أو عن غيرها دون أن تشعر «داعش» و«القاعدة» لأن إدراكها السياسى ضعيف.
وفى الختام
إن مشكلتنا فى المقام الأول دعوية، فنحن نريد أن نقتل أناسًا فى الغرب يجهلون ديننا ونبينا، ناسين أننا لم نعلمهم ونعرفهم بهذا الدين، وهذا النبى العظيم، ونقربهم إليه بطريقة صحيحة سليمة تليق بهذا الدين العظيم، وهذا النبى الكريم.. وصدق الشيخ الغزالى حينما قال: «إن نصف الذين يكفرون بالله تقع مسؤوليتهم على دعاة لم يقوموا بواجبهم نحوهم، أو دعاة نفروهم من الإسلام».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة