أحمد الجمال

الرحلة مازالت مستمرة.. اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الأمريكية

الثلاثاء، 20 يناير 2015 11:24 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت قد انتهيت من قراءة كتاب «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، للمؤرخ المشهور إدوارد جيبون قبل سفرى لأمريكا الشمالية «كندا، والولايات المتحدة» ومن بعدهما المكسيك، وقد رصد جيبون فى كتابه العوامل التى أدت إلى اضمحلال الإمبراطورية التى ورثت الإمبراطورية الإغريقية، ولأن لى موقفا من الإدارة الأمريكية، وكثيراً ما تأملت وقائع الغزو الأوروبى لأمريكا التى يفضل البعض كتابتها «أميركا»، نسبة إلى الرحالة والمستكشف «أميرجو فيسبوتشى» فقد توقفت عند قدرة البشر على إبادة بنى جنسهم، وهو ما فعله المهاجرون من الأقليات الدينية والمجرمين والمغامرين والمضطهدين فى الشعوب الأصلية التى أطلقوا عليها اسم «الهنود الحمر».. وكانت الإبادة تتم أحيانا بأسلوب «من الحائط للحائط» أى لا تبقى ولا تذر من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب! ورغم ذلك بقيت بؤر محدودة من السكان الأصليين أصحاب الحضارات فى تلك الأرض!
ولقد حاول عقلى الباطن أن يدفعنى إلى التفكير فى الكيفية التى سيتم بها اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الأمريكية الحديثة والمعاصرة، ثم تطور الأمر إلى أن أتجه بعقلى الظاهر لرصد الحالة وتلمس الإجابة!
نعم.. إن الطبيعة هناك متنوعة على النحو الذى سبق وأن أشرت إليه فى مقال سابق، والمولى سبحانه وتعالى صرف لهم موارد وثروات يصعب التنبؤ بنضوبها، ولكن ما رصدته آنذاك، أى منذ سبع سنوات، يتصل فى أساسه بدور البشر!
نحن أمام بلد ذى قوة مفرطة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، ومع ذلك فإننا إزاء حالة من الخوف المتمكن بطريقة لافتة.. ولأن الإنسان خائف فإن اقتناء السلاح متاح، وتستطيع أن تشترى سلاحاً وتستخدمه كحق لا ينازعك فيه منازع، ولأن الخوف متجذر فإن من حقك أن تضرب بالرصاص أى كائن يدخل زمام ممتلكاتك و«مالوش» دية!
وقد تكتشف الخوف من لمحات عابرة، كما حدث معى فى نقطة الحدود بين كندا والولايات المتحدة، إذ إننى كنت بصحبة مواطنين كنديين أحدهم من أصل أمريكى وشعر أصفر وعيون زرقاء!!، وكنت أحمل تأشيرة صالحة للدخول، وقاعة المركز الحدودى خاوية إلا منا نحن الأربعة يعنى لا زحام ولا طوابير، ومع ذلك جلسنا ننتظر عدة ساعات حتى يتأكدوا من أنه لا خطر منا!! ثم إننى لا أنسى مشهدا انبطحت فيه أنا ومن معى من كنديين وأمريكيين على بطوننا تحت أقرب سيارة! كنا قد دخلنا لتناول وجبة الغذاء فى مطعم سمك قريب من واشنطن العاصمة، وخرجنا إلى موقف السيارات «الباركنج» المكشوف فى ساحة واسعة حول المطعم ننتظر من تأخر لدخول دورة المياه، وفيما نحن وقوف اقتربت سيارة كاديلاك سوداء من ذلك النوع بالغ الطول ستة أبواب أو ثمانية على ما أظن، ونزل منها سائق متأنق أسود البشرة، وتركها دائرة ولكنه أغلق أبوابها بإحكام، وفى لمح البصر انطلق أحدهم من سيارة نصف نقل تقف على مسافة مائتى متر وبيده «صفيحة منشار»، وأدخلها بجوار الزجاج الأمامى وحركها وفتح السيارة بينما كان سائقها ومعه الشخص المهم الذى كان ينتظره على بعد عشرة أمتار، وانطلق الحرامى فيما السائق الزنجى المسكين يصرخ بأعلى صوته «سيارتى.. سيارتي» «my car»، ولأننى فلاح وغشيم فى شؤون الأمريكان تقدمت نحو السائق ومن معه ولوحت بأصبعى وصحت: «هناك.. تلك السيارة النقل».. ولم أكمل حتى انطلقت رصاصات باتجاهنا، لأننى أشرت بأصبعى.. وأثناء ممارستى للشهامة أو الغشومية وجدت من بصحبتى يدفعنى بأقصى قوته وأقساها لأرقد على الأرض معه ونزحف لندخل تحت أقرب سيارة وهو يصيح «هل أنت مجنون.. كيف تشير إلى الفاعلين؟!» وانطلقت السيارة النصف نقل وهم يطلقون الرصاص منها.. ولا مخلوق حاول التدخل!!.. ونهضنا ننفض التراب ومحسوبكم لا يستطيع الوقوف فوق ركبتين شخشخوا من الخضة ومازالتا «مشخشخين»!
هذا هو الخوف المتبادل فى أعتى وأكبر قوة عرفها التاريخ!، وهو مرتبط بعقيدة أخرى هى غرور القوة.. فالقوة الأمريكية مغرورة إلى أقصى حد، لأنك إذا شاهدت أفلامها منذ الكاوبوى راكب الحصان فى البرارى ومطلق الحبل ذى العقدة يصطاد به الأحصنة ويروضها وينجح رغم شراسة مقاومتها، ويستطيع أن يضرب فى كل الاتجاهات بمسدسه ويسقط القتلى بالعشرات، وإلى أفلام الخيال التى تتجلى فيها القوة والقدرة الأمريكيتان على مقاومة غزوات فضائية وكوارث طبيعية، إلى آخر المنظومة التى يبدو فيها الأمريكى كائنا لا يقهر.. ولكنه فى الواقع وكما أسلفت يسكن الجبن والخوف خلاياه!
وإذا مضيت فى الربوع الأمريكية فسوف يفجعك أن هذا التقدم العلمى والتقنى الهائل وتدفق المعلومات الغزير والثورات المعلوماتية والمعرفية المتسارعة، يقابله جهل فاضح على مستوى الأفراد، فعندما سئلت أكثر من مرة من أين أتيت؟ وأجبت من «بريتش كولومبيا» فيرد أبو العريف الأمريكانى.. نعم.. فى أمريكا اللاتينية!! لمجرد وجود اسم كولومبيا.. فلما أصحح له، ويأتى السؤال التالى: من أين أنت؟ فأرد من: مصر، وتأتينى المفاجأة: أوه.. من الشرق الأقصى.. وأرد: لا.. مصر الأهرامات.. وكثيرا ما لا يدركون ولا يعرفون أين مصر ولا الأهرامات، لأن فى المكسيك أهرامات على صغير!
إنك تلاحظ الجهل الوفير لدى شباب لا يعرف رؤساء بلده من المشاهير لنكولن أو روزفلت أو حتى كنيدى، ولا يعرف خريطة الدنيا، وكل فكرته عن جيرانه الشماليين فى كندا أنهم «رجال الثلوج»!
ثم تأتى الكارثة.. فالأمريكى يعمل طوال يومه أمام الماكينات.. قمة التكنولوجيا، ويبدو أنه كتب عليه أن يشقى بالنهار أمام الماكينة، ثم تأتى الماكينة بالليل لتشفط ما لديه من أموال! لأن حضرتك إذا دخلت صالات القمار «الميسر»، فسوف تجد قاعات ضخمة وكأنها بلا حدود تنتشر فيها الماكينات والترابيزات، وتجد الواحد من دول أو الواحدة جالسا أمام الماكينة، وبدلا من أنه كان فى الزمان الغابر يلقم الماكينة نقودا بيده، أصبح له الآن كارت ككروت الفيزا والماستر وغيرهما مربوط فى سلسلة طويلة نسبيا معلقة بدورها فى عروة البنطلون، وتمتد السلسلة بالكارت ليدخل فى فتحة الماكينة ويتم السحب أوتوماتيكيا من حساب الزبون فى البنك، وهو مشغول وفى تركيز شديد وبين الحين والآخر يمد يده إلى طاولة بجواره يضعون عليها الأكل والشرب السريع، وهو يلتهم ويكع فى الماكينة التى فين وفين وربما مرة صدفة تصدر صوت الانتصار، وتفرغ ما فى جوفها من فلوس كسبها المقامر!
نعم.. إنهم يقامرون بضراوة، وهناك مدن بأكملها وفنادق ومطاعم مرتبطة بالقمار.. ومن باب الأمانة لابد أن أحكى يوم أن قررنا الذهاب إلى لاس فيجاس ومشينا فى شوارع وأجنحة كأنها الخيال المجسد فهذه أهراماتنا وأبو الهول ومعابدنا وملكاتنا وتلك اليابان وهناك الصين وهلم جرا.. وهذا شارع فى سمائه نجوم والدنيا تمطر.. أو تشمس.. وكله صناعى ومقلد.. والأكل زى ما أنت عاوز وبأى كمية، ولكن المصيبة أنهم يتركونك تأكل وتأكل حتى يكتم الأكل على صدرك وتنتفخ وتشعر بحتمية وليس ضرورة أن تذهب للحمام.. لتكتشف أن «أولاد اللذينا» عندهم حمام واحد لهذه الطوابير الممتلئة بالطعام والفضلات! ويتصبب العرق ويئن الواقفون وكلهم أمل فى أن يقضوا حاجاتهم بأية وسيلة!
وتعلمت أن لا أقيم فى المدن الكبرى المكتظة غالية الأسعار، ولكن فى مدينة صغيرة تكون قريبة، وبالفعل نزلنا مدينة صغيرة وأقمنا فى فندق شبه فخيم وتكاد الإقامة تكون هى والأكل ببلاش، لأنهم يراهنون على كل ما فى جيب سيادتك بالقمار.. ونزلنا ولم نقامر اللهم إلا إحدانا وضعت خمسة دولارات فى الماكينة وكسبت خمسة ثانية.. وقالت كفى الله المؤمنين شر الميسر.. وظللنا ثلاثة أيام نرتع فى المطاعم والمقاهى وفى حمامات السباحة الساخنة «سبا» التى يتدفق الماء قويا من ماكينات خاصة ليدلك جسم سيادتك، فيما أنت ممدد أو متكئ تنظر إلى الغيد الحسان شبه الكاسيات!
وبعد المقامرة وضياع المدخرات أمام الماكينات، تأتى السمنة يعنى ضخامة الجسم لدرجة مفجعة وبصورة جعلتهم يطورون كراسى الطائرات لتتحمل ضخامة الكائن الأمريكى.. فالأكل هناك متاح، وخاصة النوع الذى يؤدى إلى السمنة أى الأكل السريع من بيتزا وهامبورجر وسجق وما شابه وهم يلتهمون كميات مرعبة تسبقها وتعقبها كميات المياه الغازية المتدفقة بغير حساب، ولك أن تشترى واحدا وتأخذ الثانى مجانا فى كثير من الأصناف.. وقد وصل الحال إلى أن تكون الولايات المتحدة من أكثر البلاد إصابة بمرض السكر، وأن تكون فيها نسبة عالية من بتر الأرجل نتيجة تفاقم السكر!!
وأمام تلك التخمة والسمنة لن تخطئ عينك طوابير المنقبين فى سلال القمامة وطوابير الواقفين على جانبى الطريق أو عند المنعطفات يضعون على صدورهم إعلانات طلب عمل! ناهيك عن معازل السود التى تنتشر فيها الجريمة والجوع والبطالة!

ولقد فوجئت فيما نحن فى «موتيل» صغير، وإذا بأسرة أمريكية قد اجتمعت لتودع ابنها الذى لم يتجاوز العشرين لأنه مسافر للحرب فى العراق، حيث كان يعانى من البطالة، وكأن المخرج هو الجيش والسفر للعراق حيث الدخل المرتفع، وحبذا لو كان متزوجا ليتضاعف الدخل، ولذلك فإنهم يتزوجون وبسرعة قبل السفر.. وفيما هم يحتفلون كان التليفزيون الموجود فى القاعة يعرض مشاهد لما يعانيه الأمريكيون المقاتلون فى العراق ولما يمارسونه هناك من وحشية ضارية ضد البشر العراقيين.. وتكتمل المفارقة بأن تجد المقبرة العسكرية فى سان دييجو، وتتجول فيها لتجد شواهد قبور لجنود ماتوا فى الحرب الأهلية والحربين العالميتين، وشواهد أكثر لشباب ماتوا فى العراق!، وتتم المفارقة بأن تجد فى الشارع أفرادا يتسولون وينبشون فى القمامة من جنود المارينز السابقين! هكذا نجد الخوف وغرور القوة والجهل والمقامرة والسمنة والفقر والجوع والبطالة.. هم السوس الذى ينخر جسد الإمبراطورية الأمريكية.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة