د. محمد على يوسف

بلد الشهادات

الخميس، 22 يناير 2015 10:21 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل حدث من قبل أن أصغيت سمعك أو تحمست لسماع أو لقراءة أو لمتابعة أى إنتاج ثقافى أو إبداعى، بناءً على اسم صاحبه أو منصبه ومكانته؟ هل أصابك الإحباط أحيانا بعد قراءة ما كتبه هذا المشهور أو بعد متابعة نتاج ذلك النابغ صاحب التاريخ المشرق أو المكانة المرموقة والشهادات العالية؟ أعتقد أنه لدى المتحررين من قيود الانبهار بالأسماء أو الشهرة والمكانة ستكون الإجابة كثيرا بنعم. نعم.. أحيانا بل كثيرا ما يكون المنتج الصادر عن هذه القامة العظيمة أو ذلك الاسم الشهير أو تلك الشخصية السامقة منتجا عاديا جدا وربما أقل من العادى، هذه هى الحقيقة التى لا يشترط أن تُنقص من قدر الكاتب أو المبدع صاحب المكانة، حقيقة أنه من الطبيعى أن يتفاوت مستواه فيوفق ويبدع أحيانا ويكون فى أحيان أخرى غير موفق أو يجانبه الإبداع ويجافيه قلمه ولسانه بل لربما يجافيه صوابه فيخطئ أيضا.

كل هذا طبيعى جدا بحكم كون المبدع بشرا يخطئ ويصيب ويزل وينسى ويضعف أحيانا ويكسل، وكل هذا لن ينفى حقيقة أن سيظل أقوام يتابعونه بشغف وينتظرون ما يقدمه بفارغ الصبر بل سيتعصبون لمنتجه العادى ويدافعون عن زلاته وهناته ويرونها عين الصواب ومنتهى الإبداع فقط لأنها صدرت من هذا المبدع العظيم وتلك القامة الشاهقة صاحبة الشهادات العالية والتزكيات الفائقة، بينما يتربص نفس الأقوام بأى موهبة حديثة ويحذرون من تلقى نتاج أى مبدع جديد يشق طريقه فى ظلال القامات الشاهقة التى سبقته، هكذا الدنيا وكذلك سكانها. «بلد بتاعة شهادات صحيح» يحضرنى ها هنا ذلك (الإفيه) المسرحى القديم والذى يلخص تلك الحالة الإنسانية التى أكرر أنها طبيعية وأنها بالمناسبة ليست خطأ مطلقا حتى لو لم تكن تصلح كقاعدة تعمم البلد (بتاعة شهادات) والدنيا كلها أحيانا تكون (بتاعة شهادات) هذا هو الأصل التقليدى.

ولست أعنى فقط بالشهادات تلك الورقات التى تصدرها الجامعات فى نهاية سنوات الدراسة بها وتعد بلادنا من أكثر البلاد التى تكتظ بحملتها ولكنى أقصد مفهوما أشمل من ذلك.. الشهرة تعد أحيانا شهادة، وسابق الخبرة والإنجازات أيضا تعد شهادة وتزكية أهل التخصص، هى كذلك شهادة.

والطبيعى كما بيّنت أن يلتفت الخلق ابتداءً لأصحاب تلك الشهادات وإن يقولوا يُستمع لقولهم على الأقل فى بلادنا التى تنظر للقائل قبل قوله وتسأل عن اسمه قبل رسمه ونظمه، لكن المشكلة الحقيقية أن يتحول هذا النظر المبدئى إلى سجن كبير يحبس المتلقى عن تلقى الجديد ويحبس المبدع قليل الحظ من الشهادات عن تقديم إبداعه ويجعله دوما أسيرا للنمطية العتيقة التى نصر عليها لنقبل منه إبداعا.

مشكلة حقيقية أن نتجاهل عشرات العباقرة والمبدعين فى بلادنا وفى سائر بقاع الدنيا ممن عاشوا وماتوا دون أن يُحصّلوا شيئا من تلك الشهادات العتيدة. الأستاذ عباس محمود العقاد والمحدّث ناصر الدين الألبانى والشاعر إيليا أبو ماضى والأدباء ليو تولستوى وجابرييل جارسيا ماركيز وأجاثا كريستى وباولو كويلو وإرنست هيمنجواى وتوماس أديسون مخترع المصباح الكهربى وغريغور مندل مؤسس علم الوراثة وماركونى مخترع المذياع وبيل جيتس صاحب شركة مايكروسوفت وأحد أغنى أغنياء التاريخ وستيف جوبز مؤسس شركة أبل ومايكل ديل صاحب شركة كمبيوتر ديل الشهيرة واليابانى سيكيرو هوندا مؤسس شركة هوندا للسيارات وغيرهم وغيرهم من عشرات العباقرة والمبدعين لا يتسع المقام لذكرهم جميعا كلهم لم يتموا دراستهم الجامعية، بل بعضهم بالكاد أتم دراسته الابتدائية، لكنهم مع ذلك نجحوا وقدموا للبشرية إبداعات لا حصر لها والأهم أن العالم تقبلها منهم وتلقاها بصدر رحب، تقبلها حين تجرد من قيود النظر إلى مؤهلاتهم وتحرر من أغلال التقييم المسبق من خلال الشهرة والمكانة والمناصب والألقاب التى تسبق أسماءهم تقبلها حين تحرر من أسر الشهادات وبلد الشهادات.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة