كثير من الأحيان ما نسمع عبارة "المبادئ لا تتجز" وكأنها مبدأً أخلاقى مقدس لا يمكن الخروج عليه.. بل يتخذ منها الكثير من العامة وبعض المثقفين والمتعالمين – أحياناً- قاعدة يمكن حسم العديد من القضايا عن طريقها، وفى واقع الأمر تبدو هذه العبارة فى شكلها العام مسلمة أخلاقية لا يجوز مناقشتها أو فحصها أو تمحيصها لأنها لا تقبل إلا التسليم بصحتها، رغم أنها عبارة مغلوطة لا تحمل حتى قدر محدود من الصواب يعطيها كل هذه القوة المظهرية.
وحتى يمكننا البرهنة الفعلية على تهافت المعنى الظاهر والباطن لهذه العبارة علينا أولاً أن نُعرَّف ماذا يعنى لفظ مبدأ ؟ وما هى المبادئ الأخلاقية ؟
تدلنا المعاجم اللغوية المختلفة على أن مبدأ الشىء هو أوله ومادته التى يتكون منها، والمبدأ كل ما يصدر عنه شىء بنحو من الأنحاء وهو فى ذاته أمر بديهى لا يقبل البرهان بخلاف المسائل التى تخص هذا الموضوع فإنها تثبت بالبرهان؛ وعلى ذلك تكون المبادئ الأخلاقية هى القواعد الأساسية التى تقوم عليها الأخلاق وما يخالفها يُعد مبدأ لا أخلاقى.
وهنا نتساءل هل المبادئ الأخلاقية ثابتة فى كل الأزمنة وفى كل الأحوال ؟ وهل المبادئ تقبل التجزئة؟ بمعنى هل من الممكن أن يكون المبدأ ونقيضه توجهاً أخلاقياً فى الآن نفسه أم لا؟ وهل المبدأ وضع من أجل الإنسان أم الإنسان هو الذى خُلق لأجل المبدأ ؟
وفى الإجابة على هذه الأسئلة تكمن البرهنة على صحة قضيتنا الأساسية وهى أن المبادئ لابد أن تتجزأ، بل يبقى تجزأ المبادئ هو بمثابة المبدأ الأخلاقى ألأصيل والرئيسى.
فالمبادئ الأخلاقية ليست ثابتة فى كل الأحوال والأزمان والأماكن، فما نعتبره فعلاً مُشيناً فى المجتمعات العربية والإسلامية ربما يكون فعلا فاضلاً فى المجتمعات الأوربية والعكس صحيح، بل أن الفعل نفسه فى الزمان والمكان نفسه من الممكن أن يكون أخلاقيا ولا أخلاقيا فى الوقت ذاته، ودعنا نسرد بعض الأمثلة التوضيحية على ذلك:
فالصدق مبدأ أخلاقى لا غبار عليه، لكنه من الممكن أن يكون مبدأً لا أخلاقياً إذا تمسك به الأسير عندما يقع فى يد الأعداء.. وهنا يكون الكذب فى هذه الحالة هو المبدأ الأخلاقى لا الصدق، والأمر كذلك فى الصلح بين المتخاصمين، وكذلك الحال مع الطبيب الذى قد يضطر إلى الكذب على المريض ويخفى عنه حقيقة مرضه الخطير، التى لو عرفها لازدادت مضاعفات المرض، وقد تؤدى به إلى الموت أو الانتحار عند البعض..الخ، ليصبح نقيض الصدق هنا وهو الكذب هو المبدأ الأخلاقى الرفيع.
ومثال آخر يعضد وجهة نظرنا فـ"رد الأمانة" مبدأ أخلاقى لا غبار عليه، ولكن ماذا لو أودع صديق ما عندك "مسدساً" ثم قام شجار وعراك بينه وبين أخيه جعله يُقدم عليك ليطلب أمانته التى أودعها أمانة عندك ليقتل به أخيه، فعدم رد الأمانة هنا يصبح واجباً أخلاقياً أسمى.
إذن فتجزأ المبادئ لا ثبوتها هو الأولى بالتمسك به فتصبح عبارة "المبادئ لا تتجزأ" عبارة متهافتة لا معنى لها، ولا يقولها إلا المتشدقين والمتفيهقين الذين لا يدرون معنى وحقيقة ما يرددونه بلا فهم ولا إدراك.. فالمبادئ جميعها وضعت من أجل الإنسان ومن أجل تحقيق سعادته وحريته، لا الإنسان هو الذى خُلق لأجل أن يحافظ على المبادئ التى دائماً ما تتغير من زمان إلى آخر وتختلف من مكان إلى غيره ومن مجتمعٍ إلى مجتمع.
د. غيضان السيد على يكتب: تجزؤ المبادئ ضرورة أخلاقية
الإثنين، 05 يناير 2015 04:24 ص
رجل يسلم على الآخر - صورة أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة