ركبت الطائرات عشرات المرات.. رحلات قصيرة خاطفة وأخرى طويلة مهلكة.. وطائرات بمحركات عادية صوتها مزعج، ولذلك تكون الدرجة الأولى فى الخلف أما ذات المحرك النفاث فالدرجة الأولى فى الأمام.. وتبغددت فى كراسى الدرجة الأولى وتنعمت فى درجة «البيزنس»، كما عدت لأصلى فى مقاعد الترسو أى «الإيكونومى».. وذات مرة ركبت طائرة لها طابقان حيث الدرجة الأولى تصعد لها بسلم داخلى وكنت عائداً من دمشق إلى الشارقة، وليس معى سوى شنطة هاندباج صغيرة جداً فيها غياران داخليان و«جوزين» جوارب «شرابات» وبيجامة، لأننى كنت قد ذهبت أصلاً كمتطوع للدفاع عن لبنان وجنوبها فى مواجهة الغزو الصهيونى عام 1982 ولم أتمكن بفضل إصرار النظام السورى على عدم جر شكل الدولة العبرية الصهيونية، وعدت للصحيفة التى كنت أعمل بها لأكتب ثلاثين مقالاً أى كل صباح لمدة شهر هلكت فيه النظام السورى حتى شق سفير سوريا فى أبوظبى هدومه وصرخ مولولاً لأصحاب الجريدة وللمسؤولين حتى أتوقف، وإلا فإنهم فى دمشق سينهون خدمته، وأذكر أن اسمه محمد كابور!
وقبل الطائرة هناك رحلة العذاب وخاصة فى المطارات الوطنية بتاعتنا خلال الفترة قبل أحمد شفيق، وهى رحلة دخول المطار وإبراز الجواز والتذكرة ثم وضع الشنط على سير التفتيش الأولانى، ثم التوجه لباب الدخول بعد أن تدوخ لأن اللوحات الإلكترونية لم تكن علقت بعد، وهى التى توضح لحضرتك موعد استقبالك على «كاونتر» السفر، وموعد إغلاق الكاونتر ثم موعد إقلاع الطائرة، ثم طابور الجوازات الذى قد لا يتحرك، لأن هناك من يتجهون مسرعين إلى حضرة الضابط ومعهم أكثر من جواز لإنهاء الإجراءات لأن البهوات أصحاب الجوازات يستعلون على الطوابير، أو لأن ذلك المشهلاتى عنده توصية أو أحد أقاربه وربما أخذ حسنة مدفوعة برضا صاحبها مجاملة وثمن الشاى والدخان!
وبالدخول لمكان الانتظار تظن أن الأمر انتهى فتكاد أن تنطق بالشهادتين وتحمد الله، إلا أنك تفاجأ بطابور آخر هو طابور الاتجاه للأتوبيس الموصل للطائرة، وتتكرر حكاية القفز على الطابور نفسها التى حدثت من قبل وإلى أن تصل إلى السلم قد تفاجأ بأن أمامك من استطاع أن يفلت باثنتين هاندباج ثقيلتين ومعهما «كيسان بلاستيك» ولا يستطيع نقل ساقيه على الدرج، فتضطر لأن تبادر بمساعدته أو أن تدير وجهك وتبدأ فى النفخ ضجراً، وتصل عبر الممر الضيق الذى ينسد كثيراً جراء عديدين لا يعرفون حكاية رقم المقعد وأين الرقم بالضبط، وحبذا لو كان من وراءك سيدة حامل وتحمل طفلا وتجر آخر يصر على أن ينحشر بين رجليك وأنت لا تستطيع أن تتحرك ولا أن تنطق، وهذا كله يحتمل إلا إذا حدثت صدفة أن أحدهم وجدك بدون وزن وهو لديه وزن زائد ولا يريد أن يدفع، فيبادرك بأن تكون شهما ومحترماً وتأخذ معك على تذكرتك شنطة أو شنطتين وأهى الناس لبعضها.
ويتحدث كبير المضيفين أو كبيرتهم للترحيب والتوجيه بربط الأحزمة للإقلاع، وهنا تدور المحركات وتتحرك اسم النبى حارسها لتبدأ ثقافات الناس فى الظهور.. البعض يبادر برسم الصليب بتحريك يده اليمنى إلى جبهته ثم ينزل بها لتصعد ثانية باتجاه كتفه الأيسر ثم كتفه الأيمن ثم يقبل أطراف أصابعه.. والبعض يبدأ قراءة نصوصا يحفظها من كتابه المقدس، وأدعية من تراثه الدينى، وهناك آيات فى القرآن الكريم، وأدعية مأثورة يفضل الناس قراءتها فى هذه الحالة وبعضهم يقرأ سورا كاملة كسورة يس وتبارك والرحمن، ثم يردد الدعاء المأثور الذى فيه «اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن.. إلى أن يصل إلى العبارة القائلة وأعوذ بك من وعثاء السفر وسوء المنقلب وأعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» ويكررها مرات من بعد مرات.. وهناك بعض آخر يمسك فى ذراعى المقعد بقوة هائلة ويتصبب منه العرق ولا ينطق بشىء.. وآخرون ينشغلون بقراءة صحيفة أو كتاب أو مجلة شركة الطيران نفسها، وما أن تبدأ المضيفات فى الحركة بعد استواء الطائرة حتى يطلب شرابا كحوليا إذا كان متوفرا وتجد نفسك فى كرنفال فيه من هو مصر وبجدية كاملة على قراءة القرآن وبجواره من هو حريص على أن يتجرع نبيذا أو بيرة أو فودكا أو ما تيسر من الفصيلة نفسها.. وكل الأطراف تظن وربما تعتقد أنها تفعل ما هو صحيح.. وقد يتكرر الأمر بصورة أكثر كاريكاتورية إذا ما دخلت الطائرة منطقة مطبات هوائية شديدة وتبدو كأنها ستهوى إلى الأرض، ومازلت أذكر الموقف الرهيب عندما كنت على الطائرة المتجهة من القاهرة إلى دوسلدورف بألمانيا وعند حافة التقاء الدلتا بالبحر المتوسط أعلنت المضيفة : «حضرات السادة الركاب حدث خلل جسيم بالطائرة وسوف يحاول الكابتن العودة لمطار القاهرة بأقصى سرعة»، ثم سكتت وطارت الطائرة على ارتفاع شديد الانخفاض وأخذت ترتج بعنف، ولاحظ الألمان الراكبون معنا أن الطائرة استدارت وتعود دون أن يشرح لهم أحد ماذا يحدث!! وبدأوا فى الرطن بالألمانى وبدأ معظم، إن لم يكن كل الركاب من حولى، فى الصلاة وفى قراءة القرآن والأدعية ورسم الصلبان، وأخذت أنا أيضا أقرأ وأدعو والطائرة منخفضة جداً حتى وصلنا القاهرة وبقينا حوالى ساعتين لنعرف أن الخلل كان تسربا فى خزانات الوقود، والأنكى أنهم أعادونا على الطائرة نفسها بعد أن أعلنوا تصليح العطب.. وطبعا كانت الأربع ساعات ونصف الساعة تزيد على أربعة قرون وثلاثة أرباع القرن!
فى الرحلات الطويلة العابرة للمحيطات والقارات يكون الإزعاج هو طول الرحلة والمكوث فى المقعد فترة طويلة، خاصة إذا لم تعمل حساب سيادتك على أن يكون حذاؤك مريحا، وكذلك ملابسك وإذا لم تبادر بعمل بعض الحركات ليديك وجذعك وقدميك، وأذكر أننى عملت فى نفسى مقلبا ساخنا فى إحدى الرحلات الطويلة «القاهرة - نيويورك»، ولبست حذاء بوت جلد بالغ الشياكة، وما أن مرت عدة ساعات حتى أحسست بأننى أفقد قدمى فبادرت وخلعت المداس ومددت قدمى وتعال يا حلو حاول تلبسه مرة ثانية.. مستحيل تدخل قدمى فى المداس، لأنها كانت قد انتفخت من طول الجلوس واضطررت أن أحشرها فيه حشراً مؤلماً!
ذهبت من القاهرة لفرانكفورت ثم منها إلى تورنتو.. ثم من تورنتو إلى كالجارى بطائرة أخرى، وبعدها جاء الرعب فى طائرة صغيرة ذات مروحتين عاديتين إلى كيلونا فى كولومبيا البريطانية «بريتش كولومبيا».. الطائرة لا تحمل سوى واحد وعشرين راكبا بأمتعتهم وترتج، لتذكرنى بقطار الدلتا الذى كان يربط مدن وقرى الوجه البحرى وكان يأتى من دسوق إلى محطة كفر الدوار غربية المجاورة لبلدنا جناج ونكون جلوسا فى المقهى الصغير الذى كان قد أقامه العم إبراهيم غانم ليقدم المشروبات الساخنة لمن ينتظرون الشركة «الأتوبيس» أو لمن سيستقلون المعدية «القارب» الصغير الذى يقوده عم إبراهيم أو أخوه أو ابنه فيما بعد، ليعبر ترعة القضابة وهو يسحب الجنزير الحديدى الواصل بين الضفتين، وكثيراً ما كان يشير لسائق القطار أن ينتظر حتى تصل الشحنة.. والعجيب أنهم أزالوا هذه الشبكة الحديدية التى كانت تنقل الناس والبهايم والبضائع والمحاصيل الزراعية وكان فيها العربة «البولمان» ذات الفوتيهات الجلدية الفاخرة والتى تجلس سيادتك فيها متجسطن ليأتيك سفرجى ببدلة سوداء ورباط عنق فيونكه «ببيون» وجوانتيات بيضاء لينحنى ومعاليك تأمر، وبعد أن ألغوها لم يستبدلوا بها شبكة أخرى ونهبت فلنكاتها وقضبانها ومحطاتها وكميات هائلة من الردم كانت مرتفعة تحت القضبان!
لا تؤاخذنى عزيزى القارئ على الألفطافة المفاجئة هذه فطائرة «كالجارى - كيلونا» فى أقصى الشمال فى كندا ذكرتنى بالذى مضى وحركت المواجع!
من كيلونا ذهبنا بالسيارة بصحبة جابر حجازى وزوجته أمريكية الأصل الكريمة والمعطاءة، كأنها مولودة فى أرض الكرم التى هى كما نزعم ديارنا العربية والمصرية إلى المنطقة التى يقيمون فيها واسمها «الضفة الغربية» «ويست بانك»، وهى عدة شوارع بالغة الهدوء والنظافة تصطف فيها مجموعات من الفلل المقامة من الخشب دور ودورين وثلاثة وكل فيلا لها جراح بباب أوتوماتيكى وحديقة أمامية وأخرى خلفية وأشجار الصنوبر والبلوط تنتشر فى كل متر، وحشائش من كل نوع وفيها نبات الخشخاش بزهرته المشهورة!
فى مطار تورنتو فتحوا الشنط ووجدوا ثلاث لوحات إحداها مرسومة بالزيت تصور بدوية سيناوية بملابسها وزينتها، والأخرى لوحة مطبوع فيها رسم يعود لرسامى الحملة الفرنسية يصور شخصا يجلس على مصطبة بجوار مسجد كبير وأمامه مكتب وبيده ريشة يكتب بها وبيده الأخرى خرطوم شيشة يسحب منه الأنفاس.. وتوقف الموظف الكندى عند اللوحة المرسومة بالزيت ليسأل عن أصلها وفصلها وقرر أن يحتجزها ليتبين إذا ما كانت أصلية مشهورة بريشة أحد الرسامين المشاهير، ومن ثم تدخل فى نطاق مقاومة تهريب الآثار والتحف واللوحات، ومن فورى وبالبديهة الفلاحية شبه المتنورة قلت له إنها صورة جدتى الفلاحة المصرية وأحملها معى لقريبى الذى يعيش فى بريتش كولومبيا، وكانت اللوحة موقعة من صديقى الرسام العبقرى خالد عبدالعاطى.. وتفهم الأفندى الكندى وأعادها ليعلقها جابر فيما بعد متصدرة الصالون الرئيسى لبيته، خاصة أنها لوحة رسمت من صورة التقطناها سويا لتلك البدوية خلال رحلة لنا من العريش إلى رفح، وكانت ترعى أغنامها.. وهى الرحلة التى شاهدت فيها لأول مرة «الكانيون السيناوى» الذى يشق الجبال بالقرب من نويبع، ولكن داخل الصحراء بعمق حوالى 40 كيلو مترا وفيه تتجلى الطبيعة السيناوية بأعظم وأجمل ما رأيت، حيث الصخور ملونة، والخواجات يأخذون منها مسحوقا يصبغون به بشرتهم.. فشر أجدع منتجات كرسيتيان ديور.. وللرحلة صلة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة