فى بلد تتمايل شوارعه على «مفيش صاحب بيتصاحب»، وتتلخص خبرته الحياتية فى جملة فسفورية على ظهر توك توك، لا تتعجب أن يكون الحوار بين اثنين من الإعلاميين مبنيا على مهارتهما فى استخدام أنصارهما لسب الآخر، بينما تتبادل فرقتا الكرة الأكثر شهرة فى بر مصر قاموسا للشتائم يكفى لإصابة صاحب مقولة «الرياضة أخلاق» بالشلل.. هذه ليست المرة الأولى التى تخسر فيها الحكمة أمام الواقع، فالأمر لا يتعلق بالبذاءة بقدر ما يرتبط بتشويهنا لكل ما هو جيد، فنظرية «العالم قرية صغيرة» لم تشترط على القرية أن تكون بلا أخلاق.
تم الأمر بأسرع مما كنا ننتظر، فقد اشتد الجدل فى فترات مضت حول مدى تأثير مظاهر العصر الحديث على الأخلاق، لكنهم اعتبروا الحديث عن المنطق والحكمة نوعا من الترف، الآن تتعجل الظواهر فى تفسير نفسها: تقودنا وسائل الاتصال والنشر والتواصل الاجتماعى الحديثة نحو عصر انتحار المنطق وإهانة الحكمة.. بالأمس القريب قال رجل الأعمال نجيب ساويرس على صفحته بموقع تويتر «أنا غياظ جدا»، بالتأكيد لا غبار على المليادردير الأشهر فى مصر أن يكون بسيطا ويحب لغة «ولاد البلد» لزوم التواضع السياسى لزبائن لا يشبعون أبدا.. ترى هل يكون للاقتصادى بداخله رأى مختلف؟ الإجابة عند ثرى آخر لكنه ميت، يقول ستيف جوبز: «لا تستمع لزبائنك أكثر من اللازم».
لا تسأل متى انتحر المنطق كيف أهينت الحكمة؟.. فى عصر ما قبل الإنترنت، كان الأغنياء والمشاهير من الفنانين والمديرين التنفيذيين، أكثر غموضا وابتعادا عن أعين الناس الذين على استعداد لتصديق ألف شائعة عن نجمهم المفضل، ولا يتحملون منه زلة لسان واحدة حقيقية، وفى عصر الأكثر تعليقا، وحدهم أصحاب الأسهم الكبرى فى البورصات يتحسسون لوحة الأزرار قبل أن يكتبوا آراءهم، التى فى أغلبها تمس مناطق آمنة لا تهدد أعمالهم، أو يكون أغلبها اقتباسات من أمثال وحكم لا تغضب أحدا، لكن حالة الانحدار الحالية طالت الجميع، قادة الرأى أصبحوا أعضاء فى نوادى الردح، والبذاءة تحكمت فى شوارعنا وقفزت إلى غرف المعيشة، والمدارس تعلم الأبناء كل يوم تعبيرا سوقيا جديدا ضمن المجموع، والإعلاميون يحلفون يوميا بالطلاق أنهم مؤدبون رغم أنف ولاد الـ«...»، لحسن الحظ ليست كل النصوص المفقودة جميلة.