حــســـــن زايــــد يكتب: العصافير الملونة

الأحد، 25 أكتوبر 2015 04:04 م
حــســـــن زايــــد يكتب: العصافير الملونة عصافير - أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أخشى ـ عادة ـ اللحظات المفصلية. أهرب من آلامها المبرحة، إلا تلك اللحظات المفصلية، بين الليل والنهار، فى الغزوة اليومية المتبادلة، بين ظلمة الليل، وضوء النهار. يحلو لى أن أزرع شوارع المدينة جيئة وذهابا، خاصة فى غبشة الفجر، حيث تخلو الشوارع من المارة، وتتوارى الكلاب والقطط فى أماكن مجهولة، والطيور تهجع فى أوكارها، ولا أسمع سوى نقر كعب حذائى على الرصيف المبلل بمياه المطر، تتراقص على ايقاعه أضواء المصابيح التى تتصدر واجهات المحلات المغلقة. نسمات الهواء الطرية تسبح فى مواجهتى من ناحية البحر، كأنما اغتسلت بماء المطر، وتطهرت، وتطيبت بأعطار الندى. هممت أن أجرى فاتحاً ذراعى، محتضناً نسمات الهوى بصدرى. نقرات الحذاء على الأسفلت تحدث إيقاعاً ـ راقصاً ـ متسارعاً، كأنما دخلت فى سباق مع نقرات آلة الزمن. لم أتمكن من الإجابة حين باغتنى السؤال: لماذا تجرى؟. أخشية من الفوت؟ أم هرباً من مطارد ؟. لا أدرى. وجدتنى جالساً وحيداً على تلك الرخامة الباردة، وليت ظهرى للمدينة بأشباحها الأسمنتية الشاهقة، ميمماً وجهى شطر البحر، أنظر بعيون شاخصة موجات البحر القادمة من بعيد، تتسارع حتى ترتطم بالحواجز الأسمنتية، فتتكسر على أعتابها، كأنما تبدأ حياتها من رحم البحر، وتأتى إلى هنا لتنتحر. بدأت الأفكار تداعب ذهنى، تحاول الإمساك به، وهو يفر منها، مستمتعاً بحالة الفراغ المهيمنة عليه. شخصت عيناى بعيداً بعيداً، حيث تلتصق السماء، بماء البحر، وتختلط السحب الداكنة بالأمواج، حيث لا أرض، ولا حواجز أسمنتية صلدة. وإذا بمشهد العصافير الملونة يقفز أمام عينى من جديد. تحمله الأمواج الصغيرة المتدافعة القادمة من المجهول، من عند تخوم العالم، حيث تلتصق السماء بماء البحر، عصافير محبوسة داخل قفص سلكية، كى نستمتع لرؤيتها، نطعمها ونسقيها ونحبسها داخل أقفاص. تطرب آذاننا لتغريدها بكاءً أو طرباً. لا نهتم. ألوانها مبهجة، وهذا سر شقاؤها. بالأمس القريب كمشت العصفورة وانزوت، وامتنعت عن الطعام، كأنها دخلت إضراباً مفتوحاً عنه. حملتها فى قفصها، وتوجهت بها إلى بائع العصافير، وبعد أن فحصها، نصحنى بالتوجه بها إلى الطبيب، ففعلت، وبعد أن فحصها هو الآخر، كتب الروشتة، ودلنى على أجزخانة. ونصحنى بعزلها عن الذكر طوال فترة العلاج. فأومأت بالموافقة. توجهت إلى البيت، وما أن دخلت إلى البلكونة، حتى وجدته يقفز من ركن إلى ركن، ويصدر صفيراً طويلا زاعقاً. فلم أعبأ لمشاعره، ولم أكترث لثورته. وجلست أرعى العصفورة المريضة، وبالأمس وبعد أن تناولت الأدوية، وجدتها قد تشنجت، فظننت أن ذلك عرضاً للعلاج، فأسرعت بوضعها فى القفص، فزادت حالة التشنج، ثم دفنت رأسها، وهدأت حركتها، وهمدت أنفاسها، وسكنت. حركتها بأصبعى فلم تستجب، وقد تخشب جسدها. ذهب جمالها بعد أن غاضت عنها الحياة. حملتها، وتوجهت بها إلى العصفور، وكأنى به قد هدأت حركته، وكف عن الصراخ، وهو ينظر ناحيتى وناحيتها. آثرت أن أحفر لها قبراً، وأدفنها، بعيداً عن القطط والكلاب المتنمرة، فذهبت إلى شاطئ البحر، ثم حفرت حفرة صغيرة بيدى، ودفنتها، وردمت عليها بالرمال، وكأنى أشعر تجاهها بالامتنان، لقاء ما شعرت به من متعة وسرور كلما شخصت إليها ببصرى.
أجدنى لا يفصلنى عنها سوى أمتار قليلة، أنظرها والأمواج تحملها من بعيد، ثم تأتى بها مسرعة من رحم البحر فى اتجاه الحاجز الأسمنتى الصلد، الفاصل ما بين البحر، وتلك المدينة ذات المبانى الأسمنتية الشاهقة. وقبل أن ترتطم، أغمض عينى وانصرف.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة