لا زال المسرح قادرا على إثبات أبوته للفنون.. فهو يرتبط والحياة بحبل سرى، ليمنحها نضارة وطازجة قل أن نجدها فى غيره من الفنون.. تشعر بكل ذلك فى مسرح الطليعة..وأنت تشاهد العرض المسرحى الرائع "روح" والمأخوذ عن مسرحية "الوردة والتاج" للكاتب الإنجليزى جى. بى. بريستلى.
يناقش العرض قيمة التمسك بالحياة من خلال شخصيات المسرحية الساخطة على حياتها.. الرافضة لها.. الراغبة فى الموت لتنهى بذلك معاناة يتصور كل واحد منهم أنه فريد فى الإحساس بها.. فهذا "مستر ستون" السباك يشكو الضجر من الحياة بعد أن كبر أبنائه وهجروه ولم يعودوا حتى يزوروه.. وتلك "مسز ريد" المغنية السابقة التى لم يعد يسمعها أحد.. ولا يصفق لها أحد.. وعانت فى حياتها كل ما عانت لينتهى بها الحال فى حانة "SoulBar" تبحث عن رفقة لا تجد فيها غير "مستر ستون" الذى يسكتها دائما بقسوة وجفاء شديدين.. ثم لدينا السيدة "ما" التى انتهى بها الحال وحيدة بعد زوجين وثلاثة أبناء دفنتهم جميعا ولم يبق لها إلا أن تذهب إلى الحانة لتتسول الرفقة وبعض النبيذ مرددة عبارتها "إن قدمى على حافة القبر".. ويلى ذلك السيد بيرسى وهو إنسان يرى فى الحياة كل سيئ.. فهى بالنسبة له حروب وتلوث وثقب أوزون وعالم لا يصلح للحياة الإنسانية ولذلك هو يرفض أن ينجب أطفالا حتى لا يتركهم للمعاناة التى عاشها هو.. ثم بعد ذلك نجد زوجته الشابة إيفى التى تتحرك كظل له تنفذ أوامره ولكنها تحب الحياة.. ولنكتشف إنها حتى تلك اللحظة هى الوحيدة التى تحب الحياة وترغب فى أن تعيشها.. لنتعرف بعدها على هارى الشاب المرح الذى يضفى بهجة على المكان بعزفه للموسيقى وكرمه الشديد مع الجميع رغم أنه يعانى مرضا فى القلب ومشاكل فى الغدد وفقر فى مرتب لا يكفيه حتى نهاية الشهر مما جعله يفقد حبيبته التى تزوجت بآخر فى نفس الليلة التى تدور بها أحداث الرواية.. وسط كل ذلك يظهر الغريب الذى يرتدى ملابس سوداء غريبة لنكتشف بعد ذلك أنه الموت الذى أتى ليأخذ روح واحد منهم.. لكنه- وبما أنهم كلهم ضجرون من الحياة- يترك لهم مهلة سبع دقائق يقومون فيها بأنفسهم باختيار من سيموت ليحيا الجميع.. ليبدأ الصراع الحقيقى بين أبطال الرواية الذى يجدون أنفسهم فى لحظة مكاشفة مع أنفسهم ومع بعضهم البعض.. فحين يصطدم الإنسان بالموت الذى هو نقيض الحياة - حتى ولو كانت بائسة مؤلمة- يجد نفسه مضطراً للبحث فى داخله عن الحقيقة.. ليكتشف الجميع أنهم - ورغم كل شيئ- يحبون الحياة.. ويريدون أن يعيشوها لأن لكل واحد منهم سبب للتمسك بها.. ومفهوم مختلف لسعادة ينتظرها.
قدم صناع العرض عملا فنيا رائعاً بكل المقايس.. دخله الجمهور باحثاً عن معناً فلسفى للموت.. ليجد نفسه أمام إكتشاف جديد لمعنى الحياة.. وليتحول الممثلون من صورة تعكس الضجر والملل الذى نحس به جميعا من حياة نشتكى منها بشكل متواصل، إلى مرأة نقف أمامها لنكتشف أننا نحب الحياة.. وأننا نريد أن نعيشها.. أبطال العرض: فاطمة محمد على... لبنى ونس.. عمر عبد الحليم... سماح سليم.. ياسر عزت والمخرج باسم قناوى..ومصمم الديكور محمد جابر الذى أبدع فى تحويل قاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة إلى حانة يجلس بها المتفرجون ليشكلوا جزءا من العرض.. وليتحرك الممثلون بينهم وليجلس المتفرجون على مقاعد الحانة بجوار الممثلين.. فى كسر بديع للإيهام يتم بإيقاع محسوب من الثانية الأولى وحتى الأخيرة فى هذا العمل الفنى... الذى دخلناه وفى ظننا أننا ربما نسقط فى إحساس الكآبة التى يفرضها مناقشة قضية الموت فى مواجهة الحياة.. لنجد أنفسنا نضحك من أول لحظة فى كوميدية راقية.. لينتهى بنا الحال نردد مع مسز ريد " سأغنى حتى ولو لم يسمعنى أحد.. سأغنى لنفسى لأستمتع بالحياة" وليزداد اقتناعنا بأن كل منا يحمل فى داخله نوتة موسيقية لا يجيد أحد سواه قراءتها ليصنع بنفسه ولنفسه أغنية للحياة...
صورة أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة