نقلا عن العدد اليومى
تختلف سرعة نبضات القلب، ويسرح العقل وتشرد العين، وتهتز الرأس ويميل الجسم قليلا لمجرد سماع فن التواشيح والابتهالات ومشتقاتها، هذا الفن الراقى السامى الروحانى الذى يدعو فى رسالته إلى السلام وصفاء النفس، ويرتبط بحب الله والتقرب إليه، ويدخلك فى عالم بلا حدود، حيث يحيطك البراح من كل اتجاه، وكأنك محلق وحيد فى الهواء حيث الطمأنينة والراحة تسكنان قلبك.
وهناك فروق بين الابتهالات والتواشيح والإنشاد والذكر والوعظ الدينى والمدح، حيث لكل منهم تعريفه، فالابتهالات والتواشيح تدخل ضمن أنواع المدائح المختلفة ما بين الشعر الصوفى أو الدينى أو الدعاء، والابتهالات تكون بالارتجال والألحان الفورية، والغناء الدينى يكون إما بالعربية الفصحى أو بالعامية، وأيضا المديح الشعبى الدينى الذى ينتشر فى صعيد مصر والأقاليم، وتعنى كلمة «ابتهال» -فى اللغة العربية الخشوع والتضرع إلى الله لطلب العون، والتقرب إليه بالدعاء والرجاء، أما التواشيح فهى نوع من الشعر استحدثه الأندلسيون، وله أشكال مختلفة، وقد سُمّى كذلك لأنه يشبه الوشاح بأشكاله وتطاريزه المأخوذ من وشاح الفتاة العربية التى كانت تلبسه للزينة وللجمال، وهناك فرق أيضا بين الإنشاد والابتهال، فالابتهال يكون دون آلات موسيقية ويعتمد على التنوع فى مخاطبة الناس من خلال مقطوعات قصيرة كذكر أوصاف النبى ثم الانتقال منها إلى الهجرة، بينما يصاحب الإنشاد الآلات الموسيقية، ويكون بقصيدة شعرية كاملة، حيث إن الشعر الصوفى لا يترك فراغا بين المنشد والمستمع.
ومن أشهر المنشدين والمبتهلين والمداحين: ياسين التهامى، عامر التونى، نصر الدين طوبار، سيد النقشبندى، محمد الهلباوى، محمد عمران، محمود الحديوى، وعلى محمود، والشيخ إبراهيم الفرن، والشيخ إسماعيل سكر، والشيخ طه الفشنى، والشيخ محمد الفيومى، والشيخ محمد النادى، والشيخ محرز سليمان.
والمفارقة أن الأصوات النسائية التى كانت تنافس من أيام محمد على فى الترتيل والتجويد وإحياء الليالى للسيدات فى الحرملك ومع بداية الإذاعة وصلت إلى أكثر من صوت لكنها انقرضت، وبحسب الكاتب الراحل محمود السعدنى فى كتابه «ألحان السماء»، يحكى عن رواد التلاوة والإنشاد النسائية ويقول: «بموت السيدة نبوية النحاس، انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الدينى فى العصر الحديث»، موضحا أنها «آخر سيدة مصرية ترتل القرآن الكريم فى الاحتفالات العامة وفى المناسبات الدينية وفى المآتم والأفراح، وكان الاستماع إليها مقصورًا على السيدات».
وفى فصل من كتابه تحت عنوان «من الشيخة أم محمد إلى الشيخة كريمة العدلية»، يوضح السعدنى أن السيدة نبوية كانت واحدة من 3 سيدات اشتهرن بتلاوة القرآن الكريم ومعها السيدة كريمة العدلية والسيدة منيرة عبده.
وجاء فى الكتاب أن «كريمة العدلية ظهرت أيام الإذاعات الأهلية، التى ذاع صيتها مطلع القرن العشرين فى مصر، حيث عرفتها الآذان من خلال ميكروفون الإذاعة، وظلت ترتل آيات الذكر الحكيم بصوتها حتى الحرب العالمية الثانية، ويروى الكتاب قصة الحب التى وقعت فيها «العدلية» مع الشيخ على محمود، حيث كانت تعشق صوته وطريقته فى الأداء، فى حين كان يبادلها الإعجاب بالإنصات إليها.
ويحكى الواد الشقى عن «أم محمد»، التى ظهرت فى عصر محمد على، قائلًا: «كان من عادتها إحياء ليالى شهر رمضان الكريم فى حرملك الوالى، كما كانت تقوم بإحياء ليالى المآتم فى قصور قادة الجيش وكبار رجال الدولة.. أم محمد كانت موضع إعجاب الباشا محمد على، وحصلت على العديد من الجوائز والهدايا، وأمر محمد على بسفرها إلى إسطنبول لإحياء ليالى شهر رمضان المعظم فى حرملك السلطانة، وماتت الشيخة أم محمد قبل هزيمة محمد على ومرضه، ودفنت فى مقبرة أنشئت لها خصيصًا فى الإمام الشافعى، وجرت مراسم تشييع الجنازة فى احتفال عظيم».
ويكشف السعدنى عن القارئة منيرة عبده ويقول: «لم تحقق الشهرة التى وصلت إليها كريمة العدلية، رغم وصول صوتها إلى العالم العربى عبر ميكروفونات الإذاعات الأهلية فى مصر» ويحكى عنها قائلا: «بدأت رحلتها مع القرآن فى سن الـ18، عام 1920، محدثة ضجة كبرى فى العالم العربى حتى أصبح صوتها ندًا للمشايخ الكبار، وذاع صيتها فى الخارج لدرجة أن أحد أثرياء تونس عرض عليها إحياء ليالى رمضان بصوتها فى قصره بصفاقس بأجر 1000 جنيه عام 1925، لكنها رفضت، فما كان منه إلا الحضور إلى القاهرة لسماع ترتيلها طوال الشهر الكريم.
- الشيخ النقشبندى صوت السماء الفريد
«مَولاى إنّى ببابك قَد بَسطْتُ يَدى مَن لى ألوذ به إلاك يا سَندى؟، أقُوم بالليل والأسحار سَاهيةٌ أدعُو وهَمسُ دعائى.. بالدموع نَدى.. بنُور وجهك إنى عائد وجل، ومن يعذ بك لَن يَشقى إلى الأبد.. مَهما لقيت من الدُنيا وعَارضها فَأنْتَ لى شغل عمّا يَرى جَسدى».
الكلمات علامة من علامات فن الابتهال والتواشيح، والتى أداها الشيخ سيد النقشبندى، ولحنها العبقرى والمبدع الذى لم يأت مثله بليغ حمدى، وقد وصف الدكتور مصطفى محمود فى برنامج «العلم والإيمان» الشيخ سيد النقشبندى بأنه مثل النور الكريم الفريد الذى لم يصل إليه أحد، وأجمع خبراء الأصوات على أن صوت النقشبندى من أعذب الأصوات التى قدمت الدعاء الدينى، فصوته مكون من ثمانى طبقات، فهو يتمتع بصوت يراه الموسيقيون أحد أقوى وأوسع الأصوات مساحة فى تاريخ التسجيلات، حيث يعتبر أحد أشهر المنشدين والمبتهلين فى تاريخ الإنشاد الدينى.
توفى النقشبندى إثر نوبة قلبية فى 14 فبراير 1976، ومن أشهر أعماله «مولاى إنى ببابك، المدينة، صيغة أذان، ربنا، ابتهال يا نور كل شىء وهداه، ابتهال نفسى يارب، ابتهال يا مجيب السائلين، ابتهال ليلة القدر».
- الشيخ طوبار مؤنسى فى وحدتى
تقدم نصر الدين طوبار إلى اختبارات الإذاعة، لكنه رسب خمس مرات متتالية، وهو ما أزعجه وجعله يعزف عن التقدم مرة أخرى، إلا أن إصرار من حوله لاقتناعهم بصوته على التقدم من جديد، دفعه إلى دخول اختبارات أصوات قراءة القرآن والإنشاد الدينى للمرة السادسة، التى نجح فيها هذه المرة، حيث قدم نصر الدين طوبار ما يقرب من مائتى ابتهال منها «الحوت والعنكبوت»، و«يحلو لدى»، و«أمرى إليك»، و«اكرمنا فى المعاش والمعاد»، و«بك أستجير»، و« قبسٌ من الرحمن لاح»، و«من غير ربى يستجيب؟»، و«سبحان من جعل الأرض قرارا»، و«ربى هو الله»، و«يا من يرانى فى علاه ولا أراه»، و«تسابيحى»، و«يا حنان يا منان»، و«ياودودا»، و«أنا العبد المقر بكل ذنب»، و«مؤنسى فى وحدتى»، و«يا نصير المظلومين»، و«يا سالكين الدرب»، و«فاطر الأكوان»، توفى طوبار فى 6 نوفمبر 1986.
- الشيخ يا سين التهامى.. درويش المتشدين و"الحب منك إليك"
ولد الشيخ والمنشد ذائع الصيت، ياسين التهامى، فى قرية الحواتكة بمركز منفلوط بمحافظة أسيوط بالصعيد فى السادس من ديسمبر عام 1949، حيث كان معظم أهل القرية منتسبين للطرق الصوفية، وكان والده الشيخ تهامى حسنين من الصالحين، حفظ القرآن وجوده، مما ساعده على تقويم لسانه وتعريبه على الوجه الأمثل.
وقد عاش الشيخ ياسين فى جو معطر بالذكر والنفحات الصوفية، وتعرف خلال هذه الفترة على عمالقة الشعر الصوفى أمثال عمر بن الفارض، ومنصور الحلاج، ومحيى الدين بن عربى وغيرهم، وكان لهذا أكبر الأثر فى اتجاهه للشعر الصوفى منشداً فيما بعد، وبزغ نجم الشيخ ياسين التهامى منتصف السبعينيات كمنشد دينى منافساً بذلك الشيخ أحمد التونى، سيد هذا الفن وقتها، واستطاع الشيخ ياسين التربع على عرش الإنشاد لمدة تقترب من ثلاثين عاماً وحتى الآن، واستطاع الارتقاء بالإنشاد الدينى الشعبى من الأسلوب الدارج والكلمات العامية إلى تطعيمه بأرقى وأجمل ألوان الشعر الصوفى الفصيح لعمالقة الشعراء، كما يتمتع الشيخ ياسين بمعرفة موسيقية عالية، وتنقل مرن وسلس جداً بين المقامات، ومؤخرا ساهم بصوته فى غناء تتر مسلسل «مولانا العاشق» الذى عرض فى شهر رمضان.
ويعد الشيخ ياسين التهامى من أبرز المنشدين الذين يحييون حفلات فى جميع أنحاء العالم وتحظى حفلاته بحضور طاغ، ومن أبرز قصائده «الحب منك إليك» و«أكاد من فرط الجمال أذوب» و«الله ما طلعت شمس» و«النفس تبكى على الدنيا».
- الشيخ على محمود.. سيد قراء مصر وصوت الإسلام
هو أحد أعمدة فن الإنشاد الدينى، حفظ القرآن على يد الشيخ أبوهاشم الشبراوى بكتّاب مسجد فاطمة أم الغلام بالجمالية، ثم جوّد منه وأخذ قراءته على يد الشيخ مبروك حسنين، ثم درس الفقه على يد الشيخ عبدالقادر المازنى، وذاع صيته بعد ذلك قارئًا كبيرًا، وقرأ فى مسجد الحسين فكان قارئه الأشهر، وارتفع شأنه وصار حديث العامة والخاصة.
درس بعد ذلك الموسيقى على يد الشيخ إبراهيم المغربى، وعرف أصول التلحين والعزف وحفظ الموشحات، كما درسها أيضًا على يد شيخ أرباب الأغانى محمد عبدالرحيم، كما درس تطورات الموسيقى على يد الشيخ التركى عثمان الموصلى الذى استفاد منه فى الاطلاع على الموسيقى التركية وخصائصها.
من أشهر النوابغ الذين اكتشفهم الشيخ على محمود القارئ العملاق الشيخ محمد رفعت الذى استمع إليه سنة 1918، وتنبأ له بمستقبل باهر، وبكى عندما عرف أنه ضرير، وتعلم الشيخ رفعت فى بداياته كثيرًا من الشيخ على محمود، وصار سيد قراء مصر، وصوت الإسلام الصادح فيما بعد، كما تعلم على يديه الشيخ العبقرى طه الفشنى الذى كان عضوًا فى بطانة الشيخ على محمود، وأخذ من خبرته الشىء العظيم، حتى صار سيد فن الإنشاد بعد الشيخ على محمود، والشيخ كامل يوسف البهتيمى، القارئ والمنشد المعروف، والشيخ محمد الفيومى، والشيخ عبدالسميع بيومى، وإمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد الذى كان عضوًا فى بطانة الشيخ على محمود، وتنبأ له بمستقبل باهر فى عالم الموسيقى، وصار سيد ملحنى زمانه، والموسيقار محمد عبدالوهاب، وسيدة الغناء العربى أم كلثوم، وأسمهان، وتوفى فى 21 ديسمبر 1946.
- الشيخ طه الفشنى.. "ترنم يا شجى الطير"
فى إحدى الليالى بحى الحسين عام1937 كان الشيخ طه الفشنى موجودًا فى حفل ضخم كان يحضره سعيد باشا لطفى، رئيس الإذاعة المصرية، وكانت علاقة خاصة تجمع بين الشيخ على محمود والشيخ طه الفشنى، لأنه يعتبره تلميذه، وامتدادًا له، وأعطى الشيخ على محمود الفرصة للشيخ طه الفشنى أن يقرأ أمام رئيس الإذاعة، وأعطاه مقعده وبدأ يقرأ القرآن، وكان يوم تجلٍّ للشيخ طه، وغرد فيه بشكل غير طبيعى لدرجة أبهرت سعيد باشا لطفى، رئيس الإذاعة.
وبعد أن أنهى الشيخ طه القراءة استدعاه رئيس الإذاعة وقال له: «ياشيخ طه بكرة لازم تكون عندنا فى الإذاعة المصرية، وصوتك لازم يأخذ فرصته ويستمع له الناس فى كل بر مصر»، وفى اليوم التالى ذهب الشيخ طه الفشنى للإذاعة، وأجرى اختبارًا، والتحق بالإذاعة المصرية سنة 37، وقدرت لجنة الاستماع صوته بأنه قارئ من الدرجة الأولى الممتازة، وكان مخصصًا له قراءة ساعة إلا الربع فى المساء فى الإذاعة المصرية.
ورغم أن نجم الشيخ طه الفشنى لمع فى عالم تلاوة القرآن، لكنه استمر كمنشد دينى، وحانت له الفرصة عندما مرض الشيخ على محمود، وكانت هناك مناسبة كل شهر هجرى تنظم الإذاعة فيها حفل إنشاد دينى، وطلبت منه الإذاعة أن يحل محل شيخه على محمود، لكنه رفض أن يقبل طلب الإذاعة إلا بعد موافقة الشيخ على، وذهب إليه فقال له الشيخ: «اذهب يا طه يا ابنى اقرأ، أنت خليفتى»، وأذيع الحفل، وازدادت شهرة طه الفشنى فى فن الإنشاد الدينى، مما دعاه أن ينشئ فرقة خاصة به للإنشاد الدينى عام1942 مع استمرار عمله كمقرئ.
وتكريمًا له بعد وفاته فى الخامس من فبراير عام 1972 أطلق اسمه على أحد شوارع مدينة نصر بجوار مسجد الأرقم بالقاهرة، ومن أعمال طه الفشنى «اسقنى فى الحان راحى - أنت للإحسان أهل - اهدِ قلبى وخاطرى وضميرى - إذا باهى الأنام بأى هاد - آخذ بالروح منى - ألا زعمت ليلى بأنى أحبها - بشراك يا نفس - ترنم يا شجى الطير - كن عن همومك معرضًا».
- الشيخ محمد رفعت.. صوت ملائكى يأتى من السماء
قال عنه الكاتب الكبير أنيس منصور: «ولا يزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسر جمال وجلال صوت الشيخ رفعت أنه فريد فى معدنه، وهذا الصوت قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أى صوت آخر».
ووصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكى يأتى من السماء لأول مرة، وسألوا الكاتب محمود السعدنى عن سر تفرد الشيخ محمد رفعت فقال: «كان ممتلئًا تصديقًا وإيمانًا بما يقرأ».
ورغم أن الشيخ محمد رفعت اشتهر كقارئ يتلو آيات القرآن الكريم لا غيرها، فإنه درس علم القراءات وعلم التفسير ثم المقامات الموسيقية على أيدى شيوخ عصره، فلجأ إلى القرآن يعتصم به ولا يرتزق منه بعد أن أصبح يتيما بوفاة والده وهو فى سن التاسعة.
وقد أصيب الشيخ محمد رفعت بمرض سرطان الحنجرة، وتوقف عن القراءة، ورفض قبول أى مساعدة لعلاجه من ملوك ورؤساء العالم الإسلامى، كما استطاع الشيخ «محمد رفعت» أن ترتبط تلاوته بالقرآن قبل الإفطار فى شهر رمضان، وهو أمر أصبح فى ذاكرة المصريين، توفى فى 9 مايو 1950.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة