المجتمع المصرى الذى يعيش اليوم وهو يعطينا مثالًا فريدًا لمحاولتنا التحلل من القوانين، والالتجاء إلى الاستثناء والوساطة، نجد هذه الظاهرة فى أوائل كل عام دراسى حيث يضغط الجمهور على دواوين وزارة التربية والتعليم ضغطاً مستمراً محاولا الخروج على مواد القانون الذى أعده الخبراء والفنيون ومن يوجهون التعليم فى مصر. فهذا يعمل على إدخال نجله المدرسة الابتدائية ولم يبلغ السن المقررة وذاك يريد أن يدخل ابنه المدرسة الثانوية ضارباً بالقوانين الموضوعة عرض الحائط؛ فقد يكون قد تجاوز السن، وقد يكون غير حاصل على الدرجات المطلوبة. بل إن الانتظام فى التعليم الجامعى هو أيضاً من الأمور التى يريد الجمهور أن يتجاوز فيها القوانين. وإذا حاولت أن تقنع هذا الإنسان الراجى لم يقنع ولم يحاول الفهم لمَ؟ لأنه لا يزال يعيش بعقلية الماضى، عقلية الفوضى عقلية المحسوبية.
وكم تعرض الواحد منا لسخط الكثيرين لأنه حاول أن يفهمهم الوضع الصحيح من أنه لم يعد هناك مجال للوساطة أو التدخل. وتلمس هذا التحلل فيما يفرض على الجمهور من ضرائب، إنه يعمل بكل الوسائل على أن يتهرب منها أو من أغلبها، فلم تتكون بعد عندنا (العقلية الضريبية) إن صح هذا التعبير مع أن هذه الضرائب إنما هى فى صميمها مظهر تعاون الفرد مع الحكومة لتستطيع الوفاء بالتزاماتها نحوه.
إن الفرد يطالب الحكومة بأن تهبه كل شىء، يطالبها بأن يتعلم ابنه بالمجان فى كل مراحل التعليم، فالتعليم للشعب كالماء والهواء، والتعليم ضرورة من ضرورات الحياة ينبغى أن توفرها الدولة. والفرد يطالب الحكومة بأن تقوم على حماية الفرد والمجتمع، ويحاسبها حساباً شديداً إذا هى قصرت فى ذلك أو لم تبلغ الذروة فى استتباب الأمن، ودفع عادية المعتدى. والفرد يطالب الحكومة بتقديم خدمات ضخمة كإقامة المستشفيات وصرف الدواء بالمجان. والفرد يطالبها بشق الترع وإقامة السدود، وتوفير المياه، يطالبها بكل أولئك ولا يريد أن يقوم بالتبعة أو يؤدى ما هو فرض عليه. فكيف تتمكن الحكومة إذن أن تمضى فى سياستها الإنشائية والإصلاحية وتوفير الخدمات الاجتماعية والثقافية للجمهور المتعطش إليها؟ ويتجلى هذا الخلق أيضاً فى الأداة الحكومية ذاتها فكل موظف يعمل على أن يستثنى، وأن يمنح درجات، وأن يتخطى الألوف، وكل يريد أن يصل إلى أسمى درجة بأقل مجهود يبذل، يسعى إلى ذلك ما وسعه السعى، لا يكل ولا يهدأ بل إن هناك من أفتن فى تصيد المقربين إلى الرؤساء ومتابعتهم ليتحدثوا عنه، ويرفعوه درجة أو درجتين. ولو أن كلا منا كان له وازع من نفسه، وعرف قدر عمله ووضع نفسه موضع المتخطى فى الترقية لأراح واستراح، وأدى ما يطلب منه أداؤه بذمة وإخلاص، فهو لن يداجى، ولن يصانع بل سيقول قول الحق لأنه لا ينبغى مأرباً ولا يرنو إلى هدف يصيبه سواء أكان هذا الهدف قريباً أوبعيداً.
قد يطول بنا الزمن بعض الشىء ولكننا فى الطريق سائرون وإلى الهدف الأسمى مقتربون. وحتى يحين هذا الوقت فسيضيع الكثير من أوقاتنا، وسيهدر بعض من مصالحنا، ولنحص إذا تهيأ لنا ذلك – هذا الوقت المضيع إحصاء دقيقاً فى مصلحة من المصالح الحكومية، إننا سنراع حتما وستكون نتيجة الإحصاء مؤذية لمن يغارون على الصالح العام، صالح الدولة التى تحتاج فى عهدها الحاضر إلى العمل ، والعمل الدائب الموصول . وأنت واجد صورة من هذا التحلل فى المدرسة أيضاً أو الجامعة أو معاهد العلم ، فالطلاب لا يقدرون المسئولية الملقاة على عواتقهم فيحاولون ما وجدوا إلى ذلك سبيلا عدم الانتظام فى حجرات الدراسة وإذا ضيق عليهم حاولوا أن يثبتا حضورهم ثم يخرجون إلى ملعب المدرسة وهم يحاولون أيضاً أن يزايلوا المدرسة حيث يقفزون أسوارها أو يتمارضون وكلمة ( التزويغ ) عندهم تساوى كلمة (البطولة) ولا يعرفون أن الدولة تحترق من أجلهم ، والآباء يكدحون ليتعلموا ويصبحوا رجال المستقبل العاملين ، وقد يحرمون أنفسهم متاع الحياة الدنيا وخيراتها ، وأن عملهم هذا له عواقب وخيمة فى مستقبل البلاد ، وما تعلق عليهم من آمال كبار ؛ هم لا يحفلون بكل هذا ، ويصمون عنه آذانهم ، ولا يفتحون له قلوبهم . إنهم يرون المدرسة سجناً ، وقاعة الدراسة قيداً ثقيلا غليظاً . ولمَ ذلك ؟ لا تدرى إلا أنها الموجة الزاحفة موجة (التحلل) من القوانين والخروج عليها . إن هذا الخلق يطالعك فى المنزل وفى المدرسة ، وفى كل مكان من المجتمع حتى أصبح عنواناً من عنوانينا ، وسمة من سماتنا وأضحى قوة من القوى المدمرة فى كياننا ، فلنحاول التخلص منه والضرب على أيدى المؤمنين به ، والعاملين له لنحيا حياة أخرى حياة فيها ( الضبط والربط ) بلغة العسكريين وما أقواها من حياة.
فوزى فهمـى محمـد غنيـــم يكتب: متى تنتهى الاستثناءات من حياتنا؟
السبت، 03 أكتوبر 2015 10:00 م
ورقة وقلم
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة