غرقت الإسكندرية بعد ساعات قليلة من الأمطار المتوسطة، فكانت خبرًا يتصدر الإعلام، وخرجت النكات والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى، وسافر رئيس الوزراء بنفسه إلى موقع النكبة، واستقال المحافظ أو أقيل بالذوق. وعجبًا، فكأن محافظة الإسكندرية وحدها هى التى تغرق فى شبر ميه لو هطلت الأمطار، فكل محافظات مصر تغرق فى المياه والوحل، وبعضها يغرق تمامًا بالمعنى الحقيقى للغرق، وكل شتاء منذ أن وعيت على الدنيا يحدث نفس الأمر، ربما بدرجات متفاوتة، ولا شىء يتغير، يذهب محافظ ويأتى آخر، وتغرق المدن والشوارع والكفور والنجوع، ولا نملك غير أن ندعو على المحافظ، أو يطالب الإعلام باستقالة المحافظ، ثم لا شىء يتغير، يأتى الصيف وبعده الشتاء، ثم لا شىء يتغير، وتظل التهمة هى التهمة، والمتهم هو المتهم دون أن نكلف أنفسنا، شعبًا أو مسؤولين، تغيير تفكيرنا، أو على الأصح أن نفكر من الأساس من نتهم، ومن نحاسب، ومن نسأل إذا غرقت المدن.
هل يعرف أحد من الشعب ما هى بالتحديد صلاحيات المحافظ؟، هل يسأل أحد السادة الذين يجلسون أمام الميكروفونات والكاميرات ما صلاحيات المحافظ بالتحديد؟، وهل هو المتهم الحقيقى الذى يملك إصلاح ما أفسده الدهر فى محافظته ليوجهوا غضب الجماهير للمتهم الحقيقى؟
الإجابة بالتأكيد لا، ولكن الأسهل لنا فى حال أى كارثة أو إهمال أن نوجه سهامنا للكبير، ونحن غير مدركين أن البيروقراطية، وعقم القوانين المصرية التى تتجلى أكثر ما تتجلى فى المحليات تجعل المحافظ فى كثير من الأحيان رئيسًا شرفيًا بصلاحيات مبتورة، لا تسمح له بالحركة ولا التصرف إلا بحدود.. بالتأكيد لست هنا فى معرض الدفاع عن المحافظين فى مصر، والذين يعدون- اسمًا- رؤساء جمهوريات محافظاتهم، ولكنى فقط أود أن نتوجه بعلم لا بجهل بالصلاحيات الممنوحة لهم حتى نعرف فيما نحاسبهم، وفيما نحاسب غيرهم، ولنجد الحل السليم لمشكلة مزمنة، وكأننا فى زمن ما قبل اختراع الصرف الصحى.
رحل محافظ الإسكندرية غير مأسوف عليه، ولكن كم رئيس حى وكم موظفًا يعمل معه رحلوا كما رحل المحافظ لأنهم أهملوا؟، ثم هل سأل أحدكم نفسه كم الميزانية التى يحتاجها إصلاح منظومة الصرف فى المحافظة؟، وهل وفرت له الدولة تلك الميزانية؟، أم قالت له كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك وقاتلا، أم أن الدولة تعمل بمبدأ «الشاطرة تغزل برجل حمار» وإذا الغزل ماعجبش نجيب لامؤاخذة غيره يحاول يغزل، وأبدًا لا يكتمل الغزل، لأن رجل الحمار تعبت معانا، ولا تغزل فى الأساس، لكننا مصرون عليها رغم معرفتنا بالنتيجة مسبقًا.
أذكر منذ سنوات أنى كنت أشكو لأحد رؤساء الأحياء سوء حالة الحى الذى أقطن فيه، وأحدثه عن القمامة، فقال لى هل تعرفين أننى لا أستطيع أن أجازى عامل نظافة أهمل فى عمله لأنه تابع لهيئة أخرى، أى والله ذهبت أشكو له فراح هو يشكو لى تكبيل يديه بالقوانين والبيروقراطية اللعينة، المحليات فى مصر هى الداء، وفيها الدواء لكثير مما يعانى منه الشعب، ولو صلحت ربما، بل المؤكد أن ذلك سينعكس على المواطن بشكل مباشر، وسيكون موضعًا لانفراج حياته التعيسة البائسة.
نعم نحتاج ميزانيات، لكننا قبلها نحتاج بشرًا يرفضون الغزل برجل حمار، وليضع المسؤولون تخطيطًا عامًا أولاً ثم تخطيطًا أكثر تحديدًا، فكلنا نتندر منذ وعينا عن رصف الشوارع، ثم شق بطونها بعد أسابيع لغرض جديد مثل الغاز، طب يا عم الحاج هو مافيش تخطيط أن هذه المنطقة ستدخل نطاق الغاز بعد شهر فنقدم شق البطون أو نؤخر الرصف، ولكنها أزمة تخطيط، والغريب أن لدينا وزارة باسم التخطيط، كما لدينا وزارة باسم الحكم المحلى تولاها حتى شهور أحد محافظى الإسكندرية السابقين، فماذا فعلوا، وماذا فعل غيرهم؟!
لا تفرحوا لأن محافظًا استقال دون أن يقول لنا أين الداء رغم أنه بالتأكيد عرفه، لكنه رحل دون كلمة، وهو رحيل فيه إصرار على الفشل، وعدم كشفه يعد استمرارًا فى ذات النهج بلا علاج.
حضرة القارئ أنت زهقت، وأنا كما بجد زهقت، فماذا نحن فاعلون؟!