يبدو أن الدولة تترك المدافعين عن هويتها وحضارتها ومستقبلها فى العراء، لتأكلهم ثعالب الكروم وتحاصرهم غربان الخرابات والكهوف، ويبدو لى أن المثقفين والمبدعين وأهل الكلمة والتنوير قد خطفتهم مشاغل لقمة العيش والسبابيب عن ممارسة دورهم فى الدفاع عن كل قيم التحضر والمدنية، التى تهددها حاليا نفس الحناجر الوهابية والإخوانية والسلفية فيما يشبه حربا شرسة تريد أن تعيدنا إلى نقطة الصفر، لتغلق أمامنا كل فرص الذهاب للمستقبل، بل التواصل مع الحاضر، أقول هذا بعد أن قرأت هجوما عنيفا على الوزير حلمى النمنم، لأنه قال: إن مصر دولة علمانية بالفطرة، وهاجمه بجهل مدقع رئيس حزب النور، يونس مخيون، المتلون الأعظم، واتهمه كورس من أشبال السلفيين بالكفر، وأخذوا معه بالمرة كل المثقفين العلمانيين، واتهموا كل علمانى بأنه ملحد يحارب الإسلام، وأنا أجزم بأنهم جميعا جهلة بالفطرة وبالقصد، أما قصة أن كل علمانى ملحد وكافر، فأرجو من الذين يرددون هذا الكلام الساذج والجاهل أن يعودوا إلى حديث أحد رموز الإسلام السياسى فى العالم، وهو الإخوانى التونسى راشد الغنوشى، رئيس حركة النهضة التونسية الإخوانية، عندما قال بالحرف فى حديث لصحيفة «ليبراسيون الفرنسية» إنه مع علمانية الحكم أى الصورة المدنية للدولة، التى يعيش فيها المسلم مع غير المسلم فى الوطن الواحد، وأنه بعد تجربة الإخوان فى مصر، ومحاولة احتكارهم للسلطة وإقصائهم الآخرين، تعلم أن العلمانية هى الحل، وقال: إنه قد يختلف مع العلمانية الإلحادية، لكن الإسلام أعطى حرية الاعتقاد حتى للملحد.
وفى نفس السياق وعلى نفس الوتيرة خرجت الثعالب والغربان وطيور الظلام تهاجم الدكتور جابر نصار، لأنه منع أعضاء هيئة التدريس النساء بجامعة القاهرة من التدريس بالنقاب، وقال بوضوح: إنه سأل شيخ الأزهر فقال: إنه لا نقاب فى الإسلام، وأنها عادة لاعبادة، وأعتقد أن شيخ الأزهر الأسبق الراحل د. سيد طنطاوى له كتاب بهذا الاسم النقاب عادة لا عبادة، وفيه يرصد مسيرة النقاب، ويؤكد أنه كان زى اليهود وأهل فارس قبل انتشار الإسلام، وللدكتور الفنجرى كتاب عن الحجاب والنقاب، يفند فيه كل هذا، وينفى فرضية الحجاب نفسه، وهذا ما ذكره أيضا المفكر الدكتور سعيد العشماوى فى كتابه الحجاب فى الإسلام، وأعترف أننى حزين جدا وأنا أكتب عن هذا الموضوع، لأنه دليل أننا ما زلنا نناقش سفاسف الأمور وتوافه القضايا، بدلا من أن نناقش كيف نخترع ونأكل مما نزرع ونصنع، ونحن نستورد ثلاثة أرباع طعامنا، ونستهلك كل ما يقدمه لنا الغرب الكافر. إن جابر نصار لم يخترع اختراعا بالعكس هو يطبق القانون، علينا أن نقف معه فى معركته ضد الجهل والتخلف وتجار الدين من السلفيين ورثة الجماعة الإرهابية، وبالمناسبة هو لم يأتِ ببدعة، ومرة أخرى نستشهد بتونس، منذ شهر أصدرت الحكومة التونسية قرارا بمنع ارتداء أية موظفة أو عاملة للنقاب فى كل المؤسسات الحكومية بما فيها الجامعات، وحاول بعض أعضاء حزب الغنوشى الاعتراض على القرار، لكن الغنوشى نفسه قال: إن النقاب لا علاقة له بالإسلام، أنا لا أعلم لماذا لم يعمم المجلس الأعلى للجامعات قرار جابر نصار، وتحدث بعض رؤساء الجامعات الإقليمية بأنهم ضد نصار، وعليه أن يطبق قراره على جامعته فقط كأننا نتحدث عن جزر منعزلة، والبعض شممت فى كلامه رائحة سلفية إخوانية، وهذه كارثة أن يكون عندنا رؤساء جامعات بهذا التسطيح العلمى والثقافى، بل والجهل أيضا، الموضوع ليس مجرد ملبس، بل هو فكر ونسق قيمى متجذر من عصور الانحطاط الفكرى والفتاوى الوهابية التى تخاصم العصر والحياة بل وصحيح الدين أيضا، وعندما نترك حراس التعليم العالى من رؤساء الجامعات مع صمت الوزير والمجلس الأعلى للجامعات أو تواطؤهم، يبقى على الجيل الطالع السلام، تحية لحلمى النمنم وجابر نصار، وسحقا لغربان التطرّف والجهل، وقى الله مصر من أشكالهم وعقولهم آمين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة