الشعور الذى تتخيله فى هذا الموقف هو ذاته الذى ينتابك عندما يروقك كتاب صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فتسارع إلى اقتنائه، وما إن تشرع فى قراءته حتى تجد ما يشلك عن مواصلة القراءة ويقطع عليك فهمك موضوع الكتاب ومتعتك به، ويصعب عليك الاستفادة منه، وتبذل وقتك وجهدك فى تخمين الكلمات المكتوبة خطأ، فى حال أشبه بمن يمارس هواية حل الكلمات المتقاطعة.
إذا كان الطعام غذاء الأجسام والقراءة غذاء العقول، كما يقال، فإن كتب الهيئة كالطعام المسموم الذى ينبغى للمرء أن يتجنبه وإن بدا من شكله أنه شهى مرىء، وإن قدم فى أطباق من ذهب وفضة.
إننا لا نجحد الثراء المعرفى المتنوع بين التراثى والحديث والعربى والمترجم الذى تقدمه الهيئة للمجتمع، ودورها فى تحقيق شعار القراءة للجميع بتوفير الكتاب للجمهور بسعر رمزى حتى أصبح ضيق الحال بمقدوره أن يقتنى مكتبة ضخمة من الكتب المتنوعة المجالات، ويكفى فضلاً أن تجد كتابا مثل دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجانى، متوفرا بخمسة جنيهات فقط، وهو ثمن زهيد حقا بالنسبة لقيمة المؤلِّف والمؤلَّف.
نعم الهيئة التى أنشئت فى عام 1961، ومرت بتسميات مختلفة، تقدم أعمالا فى مجالات شتى، من خلال السلاسل والكتب المستقلة والمجلات المتخصصة، وتضطلع بمهمة التنمية الثقافية، لكن ما الجدوى إذا فسدت وسيلة القارئ للوصول إلى مضمون الكتاب، كيف يصل المعنى إلى القارئ إذا كتب اللفظ خطأ؟!، فالقارئ يدرك أن قيمة الكتاب لا يضاهيها ثمن مالي، لكن آفة الأخطاء اللغوية فى كتب الهيئة تهدرها.
والأدهى أن الإصدارات الأدبية وما يتعلق بها هى أكثر الكتب التى تكتظ بالأخطاء اللغوية على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، وفى ذلك من الخطورة ما يعدم قيمة الكتاب كليةً، فتكون وسيلة نشره هى وسيلة حجب مضمونة، ذلك أن العمل الأدبى له خصوصيات جمالية وبلاغية هى جزء أصيل من المعنى الكلى للنص، وتداول النص الأدبى يتطلب حرصا لا يحتاجه أى نص آخر، خاصة أن كل حرف يكتبه المبدع له دلالات مقصودة، بل إن النقاد والمهتمين بالأدب يتناولون الفضاء النصى كجزء مهم من معناه.
قد يستهين البعض بالأخطاء اللغوية رغم ما تحمل من خطورة فى المعنى، فترك همزة على سبيل المثال قد ينتقل بالكلام من معنى إلى نقيضه، ومن ذلك الفرق بين كلمات (قسط، وأقسط، وجار وأجار، و…)، وقد يؤدى تبديل مكان همزة إلى الانحراف بالمعنى عن السياق كلية، ولنتأمل فى ذلك الفرق فى المعنى بين كلمتى إعلام وأعلام.
ونسوق هنا أمثلة من كتابين صادرين عن الهيئة ضمن سلسلة مكتبة الأسرة، أحدهما صادر ضمن فئة إبداع المرأة وهو رواية «هكذا يعبثون» للأديبة أمينة زيدان، عام 2003، والآخر من فئة علوم اجتماعية، وهو كتاب من الأرشيف السرى للثقافة المصرية للكاتب غالى شكرى، عام 2015، وبين الكتابين مدة زمنية ليست بالقليلة، تؤكد أن الإهمال فى هذا الشأن راسخ أصيل لا يتغير بتغير الوجوه والأسماء المتعاقبة على الهيئة.
ما إن تبدأ القراءة فى رواية هكذا يعبثون حتى تجد فى الصفحة الثانية من الفصل الأول «يسمح البحر شاطئه الرملى» والواضح من السياق أن المقصود «يمسح»، ثم بعد ذلك بسطرين تجد كلامًا لا تستطيع فهمه، لأن الكلام لا يأتلف مع بعضه فى سياق واحد، بل يتبرأ بعضه من بعض، على حد تعبير الجاحظ، ما يعنى أن به كلاما ساقطًا أو أخطاء لغوية تحتاج تصويبًا.. اقرأ: «يخرج عم كريمة حاملا جالون الجاز وبعض نار وكل وجهه عينان كبيرتان محايدتان، تحول القبضات السمراء بين الرجال لأن اللحظة الداهمة الرعناء، وابتلعت كل ما لقيها كالولد المباغت فى نهاية اللعبة … ويسرى كل شىء مغادرا…»، هل فهمت شيئًا؟ وفى نفس الصفحة تجد: «ثورة إسماعيل التى تفجرت حين رآها من تشارلز الأمريكانى بداخل سيارة قوات حفظ السلام الجيب، فرض خلفها يختنق ويتعثر، يرجم سطح السيارة المارقة بقطع الصخر» والواضح أن المقصود «رآها مع تشارلز»، و«فركض خلفها»، ولا تستمر فى القراءة حتى تتعثر فى أخطاء تربك فهمك وتوقفك مثل «صباح الخير يا عمدة» والرواية لا توجد بها شخصية العمدة، والمقصود «صباح الخير يا عبده» تدليلاً لشخصية بالرواية اسمها عبدالناصر، و«بينما صدرك الضيق لايزال مفجوعا بذكريات يتبق منها غير وهامات بنفسجية معتمة»، الكلام غير مفهوم، و«حين كنت تحدث فى بشرتها» والمقصود «تحدق فى بشرتها».
وفى كتاب من الأرشيف السرى للثقافة المصرية، فضلاً عن الأخطاء المضللة للفهم فى علامات الترقيم خاصة فى النصوص المقتبسة من أعمال إبداعية، يواجه القارئ أخطاء لغوية كثيرة مربكة مثل «يستقيل» مكتوبة «يستقبل»، «وزيادة فى الغواية والتكريم شرت له رواية» والصواب «نشرت له رواية»، و«ثم جاء الوساء الرفيع كالخاتم الرسمى على الشهادة» والمقصود «الوسام الرفيع»، و«كان من اليسير كلاحظة التناقص التدريجى فى عدد رواد الندوة»، والمقصود «ملاحظة»، و«وأنه يثق إلى أقصى الحدود بجمال عبد الناصر ولكنه بحذره من الوزير والقاضى والمؤذن والسيف»، المقصود «يحذره»، و«يجهش بالبكاد» والصحيح «البكاء»، و«أما صوت سناء بنت حسن باشا فهى الصوت المزيف» والصحيح «فهو الصوت»، و«إنه ببساطة يعتقد مؤتمر جنيف الأدبي» والصواب «يعقد»، و«فأصبح لقضيتنا أصدقاء واضحين وأعداء واضحين»، والصواب «واضحون».
هذا الكم المروع من الأخطاء- وهو غيض من فيض- كارثة محققة تدفعنا إلى لتساؤل فى دهش: هل يعجز من يوفر هذه الأعمال عن الإنفاق على مراجعتها لغويًّا، وتهذيبها، وهل ميزانية الهيئة لا تسمح لها بتوفير رواتب لمصححين لغويين يراجعون هذه الأعمال لتخرج للجمهور فى أبهى صورة ممكنة؟ ألم يطالع أحد المسؤولين بالهيئة كتابًا من إصداراتها ويلاحظ هذه الظاهرة؟!
هل لنا أن نأمل من وزير الثقافة حلمى النمنم، والدكتور هيثم الحاج على، القائم بأعمال رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، أن يضعا نصب أعينهما أمرا خطيرا كهذا، أم أن القارئ مضطر، حين لا يعجبه الكتاب، إلى أن يستحضر ما كتبه المازنى فى مقدمة «حصاد الهشيم»: «على أنك قد لا تهضم أكلة مثلا فيضيق صدرك ويسوء خلقك وتشعر بالحاجة إلى التسرية والنفث وتلقى أمامك هذا الكتاب فالعن صاحبه وناشره ما شئت فإنى أعرف كيف أحول لعناتك إلى من هو أحق بها، ثم أنت بعد ذلك تستطيع أن تبيعه وتنكب به غيرك أو تفككه وتلفف فى ورقه المنثور ما يلف أو توقد به نارا على طعام أو شراب أو غير ذلك»؟!
ليت المسئولين الذين يرددون فى المحافل أحاديث حماسية عن أهمية اللغة االعربية وضرورة الاعتناء بها، يجسدون ذلك على أرض الواقع، فلغتنا هويتنا، والحفاظ عليها حفاظ على هذه الهوية.. لقد ماتت اللغة العربية فى حديثنا وعلى واجهات المحال ولافتات الشوارع، فماذا يتبقى منها إن هى ماتت فى بطون الكتب؟!
موضوعات متعلقة..
هيئة الكتاب تشارك بأحدث إصداراتها فى معرض الكويت للكتاب
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة