لا تموت المجتمعات بالضربة القاضية، لكن الروح تتسرب منها شيئا فشيئا، كل يوم لا يتقدم فيه المجتمع خطوة إلى الأمام يرجع خطوة إلى الخلف، فالعالم من حولنا يلهث وراء العلم والثقافة والتحضر، ولا يعنى وقوفك فى مكانك سوى أنك تسمح للآخرين بأن يتجاوزوك، ثم تجف الدماء فى شرايين المجتمع، وتتيبس العروق، لنجد أنفسنا نعانى من سكرات الموت القاسية، وليس هناك شىء أشد فتكا بالمجتمعات سوى التنكر إلى أبنائها المجتهدين، فى السياسة كما فى الصناعة وفى الفن كما فى العلوم، ولقد عرفت المجتمعات المتقدمة أهمية تصدير الطاقات الإيجابية لأبنائها، فصنعت من مبدعيها فى كل المجالات نجوما، تحيطهم بالرعاية والعناية والتقدير والعرفان، تصنع من قصصهم أفلاما روائية وتسجيلية ليعرف الآخرون كيف وصولوا إلى ما هم عليه، تطلق أسماءهم على الشوارع والميادين، تنشئ لهم المتاحف والمكتبات، تمنحهم ما يكفيهم شر العوز، وتقدرهم فى كل خطوة يخطونها، وهكذا تضرب هذه المجتمعات عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية تشعر المبدع بأنه محل عناية ورعاية فيبذل أقصى طاقته من أجل استحقاق المزيد، ومن ناحية أخرى ترسل رسالة إيجابية لكل المجتهدين المغمورين فتزيد حماستهم من أجل التميز ليلحقوا بإخوانهم المتميزين.
قل لى من نجمك أقل لك من أنت، نعم هذا اختبار فى تقدم المجتمعات، فقاعدة فى كل بلدان العالم النجومية عريضة متسعة، لكن من المحزن أنها فى مصر تقتصر على الفنانين والأدباء والصحفيين ولاعبى الكرة، ونادرا ما نرى عالما أو باحثا يقدمه المجتمع إلى المجتمع باعتباره ابنا نجيبا أو فردا استثنائيا، والاستثناء الوحيد فى هذه القاعدة هو أن ينال هذا الباحث أو العالم تقديرا خارجيا أولا ليعترف به المجتمع مثلما حدث مع أحمد زويل ومجدى يعقوب، وحتى فى هذه الحالة قلما ما نستفيد من هذه الطاقات الإنسانية الكبرى فى تنمية المجتمع وتقدم الدول وتحضر الشعب.
لا يحتاج الواحد فى أوروبا مثلا أن يقرأ كتابا عن الموسيقار العالمى موتسارت ليعرفه ويقدره، ولا أن يجهد نفسه لمعرفة تاريخ الفنان التشكيلى العالمى فان جوخ ليعرف مراحله الفنية وتطورها، ولا أن تجهد نفسه فى مطالعة النظريات العلمية ليتأكد من عبقرية دارون، لأنه حتى يصل إلى عمر الوعى سيكون قد شاهد عشرات المواد الفيلمية عن هؤلاء المبدعين وسمع ورأى وشعر بما أنتجوه من إبداعات آلاف المرات، ويوما بعد يوم تتوغل هذه الأعمال الإبداعية فى وجدان الشعب وتصبح معادلا للشعب ومكونا للهوية، ووقتها يصبح الإبداع غاية كبرى، والسباق على نيل شرف مبدع على أشده، فتدب فى شرايين المجتمع دماء جديدة قادرة على أن تهبه الحياة.
حزين أنت على سفر المبدعين المصريين إلى الخارج، وحزين أنا أيضا، لكن قبل أن نلعن ظلام أيامنا الذى أجبر المبدعين على الرحيل علينا أن نجتهد فى صياغة علاقة الدولة والمجتمع المدنى مع هؤلاء المبدعين، لكى يظل خيرنا لنا لا لغيرنا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة