قابلته مصادفة فوجدته غاضبا، جندى مجند لكنه من نوعية الرجال الأشداء، واحد من جنودنا الذين يؤدون خدمتهم العسكرية فى سيناء، سألته على سبيل الاطمئنان كيف حالكم فى سيناء، ففوجئت ببركان غضب ينفجر فى وجهى، كلمات كالرصاص يطلقها هذا المجند الذى ظهرت على بشرته سمرة الشمس التى يخدم تحت لهيبها، قالها وكأنه يسخر منى، إحنا كويسين قوى، إحنا رجاله ومش هانسيب بلدنا تضيع، هانحميها ومن غير ما نطلب الثمن، إحنا مش بنخاف من الموت، إحنا بنخاف على البلد.
استوقفته مستفسرا عن سبب غضبه وكأنى أجرمت بسؤالى، فاعتذر بأدب ليستكمل حديثه بنبرة أكثر هدوءا وهو يكشف لى عن حالة حزن عامة بين زملائه المرابطين على الحدود، فهم يضحون بأرواحهم دفاعا عن تراب البلد بينما آخرون يسمون أنفسهم سياسيين ونشطاء ومثقفون ومفكرون يجلسون فى مكاتب مكيفة أو على مصاطب الفضائيات ينظرون وكأنهم مقاتلون، يصارعون من أجل مكاسب سياسية ونحن نرى الموت كل لحظة، نشم رائحته فى كل مكان، ننطق بالشهادة فى كل خطوة، سياسة إيه ومناصب إيه، تعالوا سيناء وأمسكوا البندقية وأطلعوا خدمة مرة واحدة وأنتم تعرفوا يعنى إيه بلد ويعنى أيه التضحية من أجل البلد، اطلعوا مداهمة مرة واحدة علشان تنقذوا البلد من الإرهابيين وأنتم تعرفوا يعنى إيه الموت، تعالوا شوفوا الرجالة اللى عارفين إن الموت أقرب اليهم من حبل الوريد ورغم ذلك لا تهتز لهم شعرة فى رؤوسهم، يتنافسون على من يتقدم كى ينال الشهادة، وهؤلاء المدعين يتصارعون من أجل المكاسب والمليارات والمناصب .
واصلت الصمت لأستمع لهذا الجندى مجند وهو يتحدث بمرارة واضحة، أقسم بالله إنه وكل زملائه المجندين يحتقرون كل من لا يرى ما تتعرض له مصر من مؤامرات، يكرهون كل سياسى أو ناشط يدعى أنه يتحدث حبا فى البلد وهو فى الحقيقة يحب نفسه ويدافع عن مصلحته، هذه النوعية من "كدابين النضال ومدعين الوطنية" لو كانوا يحبون البلد حقاً لشعروا أن هناك من يموتون من أجلهم .
يسألنى الجندى مجند.. أين نحن من برامجكم ومعارككم، أين شهداؤنا من اهتماماتكم، تتذكرونا مع كل حادث، كلمات رقيقة ومصمصة شفاه لننتقل بعدها لموضوع آخر، هل يعلم أى أعلامى من نجوم الشاشات أو سياسى من أبطال المصارعة الفضائية كم شهيد قتلهم الإرهاب فى سيناء، كم مصاب أصبح معاقا وكانت أسرته تنتظر عودته ليعولها، هل تعلمون أن زميلى قد يتناول إفطاره معى وفى موعد الغداء نبكيه شهيدا ونشيعه، هل يعرف واحد من هؤلاء المدعين معنى أن تنام بنصف عين مغمضة حتى تكون جاهزا لأى غدر إرهابى، هل يعلم أحد من هؤلاء قصة شهيد واحد من أبطالنا فى سيناء، هم فقط يعلمون تاريخ وبطولات أحمد ماهر وتضحيات علاء عبد الفتاح ووطنية فلان وعلان من نجوم المشهد، أما المطحونين الشقيانين المقاتلين الشهداء فلا قيمة لهم ولا أهمية ولا ذكر إلا فى المصائب والكوارث .
يكمل الجندى مجند ليصفعنى.. إحنا جنود مصر قابلين نموت علشان بلدنا، لا نمن ولا نزايد فهذا أقل حقوق مصر علينا، لكن حسوا بينا، اعلموا أننا ضباط وجنود نموت حتى تجدوا بلدا تتصارعوا على مناصبها وتتربحوا من ورائها، تذكرونا كما تتذكرون آخرين، قد لا نمتلك ما نقدمه لكم مثلهم، لكننا نمتلك الأهم، الروح التى نفدى بها مصر، حتى لا تسقط مثل دول غيرنا، تستهينون بهذا المثل وترونه خداعا، لكن لو شاهدتم الإرهابيين وتسليحهم وتدريباتهم وقدراتهم ستعلمون ما أقول، لكن مكاتبكم المكيفة أطفئت لدى بعضكم نار الحمية للبلد، ووضعت على قلوبهم مراوح فلا يشعرون بالخطر .
الجندى مجند وهو يختم حديثه معى أراد أن يحسم الأمر فقال، أنا فخور بالأفرول الميرى واعتبره شرفا، والبيادة التى ارتديها أشرف من كثيرين آراهم أقزام وأن كانوا عند الآخرين قادة ومناضلين، فخور بما أقدمه، أنتظر الموت وأنا سعيد، لو الأمر بيدى لطلبت مد خدمتى، حتى لا أترك إخوانى وحدهم.
انتهى عتب الجندى البطل وبقى السؤال يراودنى.. هل أستطيع نشر رسالته؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة