سمعنا صوته عاليا مجلجلا، وسمعناه ثائرا مندفعا، وسمعناه غاضبا متحمسا، وسمعناه حزينا منكسرا، فقد كان صوت «الخال» عبدالرحمن الأبنودى شبيها بمصر، وهو المتحدث الشعبى باسمها وانكساراتها وثوراتها وأفراحها الناقصة على الدوام، كان صوته ممزوجا بالوطن حتى صار الصوت صورة وأيقونة، تدلنا على وجودنا القلق، وبرغم أن صوته كان ملازما لنا فى الكثير من المواقف الوطنية الجامعة لكن أكثرنا لم يحظ بسماع تلك النبرة الحانية التى كانت تسكن حنجرته حينما يمسك بسماعة التليفون ويقول فى لهجة شبه رسمية اعتاد أن يبادر بها كل من يتصل به ليقول «أيوه نعم» ثم ينحرف هذا الصوت وكأنه أنشأه نشأ آخر ويستبدل نبرته الرسمية بنبرة هادئة ساكنة حانية تترك آثارها على تقاسيم وجهه، وهو يقول أيوه يا «نونى»، فعلى الجانب الآخر تسكن «نهال كمال» حب عمره وشمسه المشرقة وقنديل ليله ونسمة ضحاه، ومكنون قلبه ووردة ربيعه، وباب خيره وأم آيته ونوره التى كثيرا ما كان يفتخر بأنها التى منحته فى هذه الحياة الشتائية دفئا وهوية.
أنا ياما قلت خلاص..
وقلت فات الوقت
أتارى عمرى يا ناس..
بيبتدى ديلوقت
شغلنا الأبنودى عن الأبنودى، ولم ننتبه فى حياته الصاخبة أن نسمع صوته المجرد من شحنات الألم الوطنى، ولهذا كان من الواجب علينا أن نبحث عن هذه الشحنة الإنسانية المرهفة فى الجانب المبهج من حياة الخال، ولهذا حاولنا أن نرصد ما تبقى من الخال فى حب عمره «نهال كمال» هذا الحب الذى جعل لحياته «أولا» وفى الوقت الذى ظن فيه أنه يحبو نحو «الآخر» فأضافت بلمستها الراقية لعمر الأبنودى لونا آخر لم يتخيله ولم يتوقعه.
أشهر عديدة مرت على رحيل الأبنودى لكن لأن الأبنودى كالشجرة الطيبة ذات الأصل الثابت والفرع العالى لم نشعر بأنه رحل عنا، أو فارقنا، وهو ذات الإحساس الذى تعاينه حينما تجلس مع الإعلامية الكبيرة «نهال كمال» وهى تتحدث عنه وكأنه حاضر، وكأن مقعده مازال دافئا، تنطلق متحدثة وكأنها تستعذب صوتها وهو يغوص فى سيرته، ومثلما رأيت صوت الأبنودى وهو مكسو بالحنو حينما يتحدث إلى «نونى» رأيت البراءة والطفولة تتقافز من صوت «نهال كمال» وهى تتحدث عن الخال.
وكأنى أول مره بتبسم
وكأن عمر القلب ما اتألم
بتعلم الدنيا من الأول
واغنى من قلبى واتكلم
هكذا وصف الأبنودى حياته بعد أن جاءتها «نهال»، فوجودها لم يجعل حياته عامرة بالحب والدفء فحسب، وإنما أنساه ما مر به من آلام فى السابق، وعلمه ما لم يعلم، وجعل لسانه رطبا بالأغانى النابعة من القلب، وبهذه الأغنية «قبل النهاردة» التى غنتها وردة ولحنها عمار الشريعى تعتز نهال كمال كثيرا، فهى هديتها الأزلية التى يتغنى بها الجميع حتى الآن فتشعر أن الأبنودى يتغزل فى مفاتنها وخصالها ويداعبها كما يداعب النسيم الروح.
تضحك وتقول: أنا عشت تجربة حب لم تعشها أنثى، فخلف وجه الأبنودى «الصعيدى» المحفور الجرانيت يجلس شخص آخر لم يعرف أحدا غيرى، كما أنه لم يعرفنى أحد غيره، فقد كان الأبنودى يقول لى فى كل ثانية «أنا أحبك»، وكثيرا ما كان يتصل بى وأنا فى العمل وأستفسر منه عن سبب اتصاله ليقول لى «أبدا يا ستى.. غلبنى الشوق فقلت أتصل»، فقد كان الأبنودى دائما يحاصرنى بالمحبة ويأسرنى بالمشاعر الدافئة التى لا يجتهد فى التعبير عنها، بل تخرج منها تلقائية صافية فأشعر بصدقها وحنانها.
حبيبى الفرحه لما جيت وجاتنى
نسيت من الفرحه أندم عاللى فاتنى
وليه أندم وليه أندم وانت
باعتنى الدنيا وانت اللى اشتريتنى
لا تتضايق «نهال» من أنها عاشت مع «ضرة» فأسألها كم أغنية كتبها لك الخال فتبتسم وتقول: حوالى أربع أغنيات هى: «قبل النهادرة وطبعا أحباب» التى غنتهما «وردة»، و«سنة واحدة وعملت كده فيا» التى غنتها نادية مصطفى، و«يا بنت يا بيضا» التى غناها على الحجار، ثم تقول باسمة عبدالرحمن: لم يكتب أغانى عاطفية كما يظن البعض فقد كان يقول لى: إذا رأيتينى أكتب شعرا عاطفيا حقيقيا فاعرفى أنه لمصر ولا لشىء غيرها، فقد كانت مصر «ضرة» نهال كمال الحقيقية، لكنها «ضرة» محببة، ترضى غرور حبيبها المتعالى عن المشاعر الزائلة، وتجعله سيدا يعشق أميرة.
ولأن الأبنودى كان معجونا بالناس وأحلامهم وكلماتهم فقد كان كثيرا ما يستلهم كلمات أغنياته من الأحاديث العفوية، فقد استلهم «أنا كل ما أقول التوبة» من الغناء الشعبى كما استلهم أغنية «آه يا ليل يا قمر» من غناء ابنة أخته، وأغنية «لو بالعين أنظر حبيبى» من كلمات أمه الحاجة «فاطنة قنديل»، وكذلك أغنية بالسلامة يا حبيبى بالسلامة»، وغيرها الكثير، ووفقا لهذه الطريقة فى تأليف الأغانى جاءت أغنية «سنة واحدة وعملت كده فيا» التى كتبها الأبنودى بعد سنة من زواجهما فتروى نهال كمال قصة هذه الأغنية ضاحكة لتذيع سرا لأول مرة فتقول: هذه الأغنية من أجمل الأغانى التى أعشقها لعبدالرحمن، وقصة هذه الأغنية أننى بعد عيد زواجنا الأول كنت أتحدث مع عبدالرحمن فقلت له: سنة واحدة وعملت كده فيا؟ فانتفض قائلا: الله والله الجملة دى تنفع مطلع أغنية»، ثم كتب «سنة واحدة وعملت كده فيا أمال لو عشت معاك سنتين تلاتين خمسين سبعين مية» فغضبت منه ثم قال «ولو أن المية يا حبيبى لو أن المية دى شوية هتعدى كأنها سنة واحدة» ففرحنا وضحكنا.
ورديت اللى ضاع منى ف ثوانى
وخليتنى كأنى حد تانى
ده ما فيش للفرحه تانى مكان فى قلبى
وكأن الفرحه مخلوقه عشانى
التمرد على صيغ الحب التقليدى هو أكثر شىء كان يميز تجربة «الخال ونهال» العاطفية، فقد كان الخال لا يهتم كثيرا بأعياد الحب أو أعياد الميلاد أو غيرها من المناسبات العادية، وهذا ما كان يغضب «نهال» كثيرا فى بداية العلاقة التى تصفها بأنها كانت مثل الشجرة التى نمت مع الأيام ومازالت تنمو بعد رحيله، لكنها اعترفت بعد فترة بمدى عبقرية طريقة الأبنودى فى الحب، فتقول كانت جائزتى الكبرى هى أن يأتى لى بوردة قطفها من حديقة بيتنا فى الاسماعيلية ويفاجئنى بها فى الصباح ليقول لى: خدى يا ستى أحلى وردة فى الجنينه لأحلى وردة فى قلبى»، وكثيرا ما كانت نهال تسعد بأن يكتب لها إهداء أول نسخة تصله من كتبه ودواوينه التى تحتفظ بها حتى الآن كأغلى ما تمتلك، وتقول: أجمل ما فى عبدالرحمن هى القدرة على الاحتواء، فقبل زواجنا استطاع أن يصبح بمثابة أستاذى فى الثقافة والمعرفة، واستطاع توجيهى نحو القراءة الواعية والتثقف العميق، فغمرنى باتساع أفقه ورحابة صدره، فكان يأتى لى بكتب بريخت وبابلو نيرودا وناظم حكمت، وهو أول من عرفنى على كتاب فجر الضمير وكتاب بونابرت فى مصر.
يا غنوة حب ما تغنتش قبلى
ومن قبلك انا ما سمعتهاش
يا جنه مجمعه الأفراح فى صحبه
ومن قبلك انا ما دخلتهاش
«حبنا كان كالشجرة النامية التى تعلو على أى شىء وتكبر فى داخلى وداخله حتى وصلنا بمرور الأيام إلى جوهر الجوهر»، هكذا تقول «نهال كمال» ثم تبتسم حينما تقول: ذات مرة قال لى أحمد زكى: أنا كل ما أكون مسافر الإسكندرية أفضل أسمع أغنية «قبل النهاردة» طول الطريق.. أنا نفسى أحب حب زى اللى الأبنودى حبه ليكى»، وقد تدرج هذا الحب مع الأيام عدة درجات ومر بالعديد من المراحل، فتقول: أولها حينما أحببته كشاعر وحضرت أول أمسية شعرية له مع ابنة خالتى فى الإسكندرية، ولفت نظرى فيه قدرته على الإدهاش، ثم أحببته كأستاذ وصديق بعد أن عملت فى التليفزيون واستعنت به فى برنامج عن الشعر، وكنت أستضيفه فى الكثير من الحلقات مع شاعر آخر فى أول الطريق، ومن هؤلاء الشاعر الكبير جمال بخيت، ثم تحول هذا الحب تحولا كبيرا حينما أوصته والدته «فاطمة قنديل» بأن يتزوجنى وقالت له «دى أم عيالك»، وحينما قال لى هذا الكلام قاطعته لمدة أسبوع حتى أفيق من الصدمة، ثم بعدها تزوجنا فكانت حياتى معه عبارة عن فقرة قصيرة من السعادة الخاطفة.
وقلبى يا ناس عاللى بيعرفونى
دول معاهم حق لما لما يحسدونى
طب أعمل إيه.. أخبى؟ إزاى وليه أخبى؟
منا لو أخبى يا قلبى تفضحنى عيونى
بعد الزواج كان مهموما بإسعادى بشكل لم أتخيله، فلأنى أحب الفل زرع لى نبتتى فل فى مدخل الحديقة حتى أراهما فى الدخول والخروج، وكان مشغولا بتهيئة الأماكن التى نجلس فيها حاسبا لاتجاه الريح وحركة الشمس، وبناء على هذه الحسابات التى كان يتقنها زرع لى شجرة ياسمين فى الجهة التى يأتى منها الريح بجوار المكان الذى كنا نجلس فيه وكان يقول لى: زرعتلك الشجرة هنا عشان كل ما تقعدى تلاقى ريحة حلوة، فكما قلت لك كان يجيد فن الحصار بالحب، ثم تضحك: فى طريقى من القاهرة إلى الإسماعيلية كان يهاتفنى مائة مرة ليطمئن على حتى ترهقنى مكالماته، ولهذا كان أصعب شىء مر على بعد رحيله هو مشوارى الأول إلى الإسماعيلية الذى انتبهت فجأة إلى أنه لم يهاتفنى أحد حتى منتصف الطريق فغرقت فى البكاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة