آثارت الزيارة التى قام بها البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية إلى القدس صخبا وجدلا عريضا بين رافض للزيارة انطلاقا من الموقف الوطنى التاريخى للكنيسة المصرية الرافض لزيارة القدس المحتلة والممتد من البابا كيرلس السادس إلى البابا شنودة الثالث، وبين متحفظ على الزيارة لأنها تأتى فى توقيت سياسى غاية فى السوء وأوضاع متدهورة داخل الأراضى العربية المحتلة فى فلسطين والانتهاكات الصهيونية ضد المقدسات العربية والاعتداءات الوحشية المتكررة والمستمرة ضد الشعب الفلسطينى التى أسفرت فى خلال الشهرين الماضيين عن سقوط أكثر من 100 شهيدا واعتقال المئات.
وبدت الزيارة وكأنها عدم اكتراث بالأوضاع المتدهورة داخل القدس والأراضى العربية المحتلة وفى أعقاب قرار الاتحاد الأوروبى بتمييز السلع الإسرائيلية المقبلة من المستوطنات والأراضى المحتلة فى عام 67 إلى السوق الأوروبية لتوعية المواطن الأوروبى ودفعه لاتخاذ موقف سلبى من هذه السلع. وبدت الزيارة أيضا وكأنها صدمة للضمير الوطنى المصرى والوجدان الشعبى الرافض للتطبيع مع العدو المحتل، وشرخ لموقف الكنيسة المصرية منذ احتلال القدس عام 67 وإعلان البابا كيرلس منع زيارة المسيحيين للكنيسة إلا بعد تحريرها، وهو الموقف الذى زاد عليه البابا شنودة بتصريحات أكدت على الموقف الوطنى والعروبى للكنيسة المصرية باعتبارها الكنيسة الأم للكنائس الشرقية، وتضامنها مع موقف المؤسسات الإسلامية من زيارة القدس، وأعلن أنه لن يدخل القدس إلا مع شيخ الأزهر، بل أنه لن يدخل المدينة المقدسة إلا بعد تحريرها وبتأشيرة الدولة الفلسطينية.
وأتذكر وخلال ندوة مشتركة بنقابة الصحفيين فى بدايات التسعينيات بحضور البابا شنودة والشيخ الدكتور سيد طنطاوى مفتى الديار المصرية، أن البابا فى رده على سؤال لأحد الحضور من الأقباط المسيحيين عن منع الحج إلى القدس والارتواء من الماء المقدسة، فرد عليه البابا ببديهة مدهشة وعلم ووعى تميز بهما: «عليك أن تشرب من ماء النيل فهى مقدسة لأنها السيد المسيح شرب منها عندما عاش فى مصر حوالى 3 سنوات ونصف»، وكانت بمثابة «فتوى» كنسية لمنع زيارة المسيحيين المصريين إلى القدس، رغم بعض الخروقات من البعض التى نالوا بسببها عقابا كنسيا شديدا.
من هنا فإن قرار الزيارة الذى اتخذه البابا تواضروس الثانى إلى القدس سواء بقرار شخصى أو بالتشاور، كان صدمة للموقف الوطنى الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيونى وتقديم هدية مجانية لإسرائيل، وأنه ميل وانحراف عن المدرسة الوطنية للبابا شنودة التى راهن على استمرارها من بعد وفاته، عندما سئل عن وجود تخوفات من موقف الكنيسة من بعده فرد بأن البابا شنودة مدرسة وليس فردا. وحتى بعد تولى البابا تواضروس الثانى مقاليد الكرسى البابوى تفاءل الجميع به فهو المثقف الواعى وأحد تلاميذ البابا الراحل، والداعم للدولة الوطنية ضد طغيان الاستبداد الدينى، فى أوقات صعبة مرت بها مصر، وهو القائل فى عز الاعتداءات الإرهابية على الكنائس وتدميرها بعد فض اعتصام رابعة المسلح: «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن». وكانت الجملة فاصلة فى صون وحماية النسيج الوطنى الذى أرادت الإخوان بحرائق الكنائس زرع الفتنة، وطمأنة المصريين على موقف كنيستهم الوطنية.
ومهما قيل فى أسباب الزيارة وأنها لأسباب إنسانية لقيادة الصلاة الكنيسية على الأنبا إبراهام مطران القدس، وأنه لا يقود الصلاة إلا البابا ولا أحد غيره، ومهما قيل عن اعتذار البابا تواضروس لدعوة الرئيس الفلسطينى أبومازن لزيارة رام الله. فلا يمكن اعتبار الزيارة إلا أنها «تقدير سياسى خاطئ». لكن فى الوقت ذاته المطلوب من البابا عقد اجتماع عاجل مع رموز النخبة السياسية والوطنية المصرية لتوضيح الحقائق الكاملة حول الزيارة ولتثبيت الوجدان المصرى من الكنيسة وموقفها الوطنى حتى لا تتداعى المواقف الرافضة وتصبح مثل كرة الثلج ولا ينفع معها تحجيم «قضية الزيارة» وتجاوزها. وهذا هو المطلوب الآن.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة