نقلا عن العدد اليومى...
لم تنل شخصية فى تاريخ الإسلام، ما نال السيدة عائشة ابنة أبى بكر الصديق أم المؤمنين وزوجة الرسول، صلى الله وسلم، من إساءات وأقاويل حطت من قدرها كثانى أهم شخصة نسائية فى عهد النبوة، بعد السيدة خديجة، رضى الله عنها.
ورغم ما يشيعه السلفيون من أن الإساءة لأم المؤمنين تأتى دائما من الأطراف الشيعية، فأن الأمر لا يقتصر على المغالين والمتطرفين من أتباع المذهب العلوى، حيث تلحق الإساءات بالسيدة عائشة من جميع الأطراف، وعلى رأسها الروايات والأحاديث التى وردت بكتب التراث، ولا تليق نسبة ما ورد فيها لأم المؤمنين، واستخدمها مشايخ سلفيون.
وتنوعت مصادر الإساءة للسيدة عائشة، فبعضها تراثى، حيث تضمنت كتب التراث، بعض الأحاديث التى تنال من قدر أم المؤمنين، وصل بعضها للادعاء بأن زوجة الرسول كانت تُجلس قريباتها لإرضاع من تحب من الصحابة، بالإضافة لأحاديث أخرى منها حديث منسوب للرسول حيث أشار لمسكن عائشة وقال: «هنا الفتنة ثلاثاً من حيث يطلع قرن الشيطان»، وهى الرواية التى استغلها البعض واتهموا أم المؤمنين بالتسبب فى اقتتال المسلمين فى معركة الجمل، وحصروا الصراع الدائر بين على بن أبى طالب وبين طائفة أخرى من صحابة الرسول وعلى رأسهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، على إثر مقتل الخليفة عثمان بن عفان، فى خروج أم المؤمنين.
ويحتاج التراث الإسلامى بشكل عام، والمتعلق بزوجة النبى خاصة، لإعادة تنقيته، وتهذيبه من الشوائب ومن الرواسب التى لا تمت إلى المنطق والعقل بصلة، لتفعيل العقل وإكسابه حقه فى النظر بقضايا التراث الدينى من جهة، ولإنصاف أم المؤمنين من جهة أخرى، حيث طالها فى حياتها وفى مماتها، ما لم يطل أحدًا على امتداد الدعوة وبعدها، بدءًا من اتهامها فى حادثة الإفك، إلى أن بُرئت منها، مرورًا بدورها فى موقعة الجمل ومخالفة الوصية القرآنية لزوجات الرسول «وقرن فى بيوتكن»، وخروجها ضمن أحداث الفتنة، بالإضافة لما قيل عن سحبها البيعة من خليفة الرسول على بن أبى طالب، وموقفها منه الذى استغله المتشددون فى الإساءة لها، اعتمادًا على رويات تاريخية غير مدققة حول كرهها لابن عم النبى، واتخاذها موقفا منه، بعد طلبه من الرسول أن يطلقها إثر تعرضها لمحنة «حادثة الإفك».
وفى هذا التقرير، نسعى لكشف عدد من المثالب فى التراث الإسلامى والمتعلقة بالسيدة عائشة زوجة الرسول، صلى الله وسلم، بوصفها أكثر الشخصيات الإسلامية التى نالت منها أقاويل، وهو ما يتطلب أن ننظر فى روايات الكتب القديمة، ومؤلفات الأولين بوصفها مجهودا بشريا أنتجه علماء لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لذا يجب أن نكون حذرين عند النقل من التراث، بوصفه منتجًا يخص زمانه ومعطيات مجتمعه وإجابات عن أسئلة عصره.
الإساءة لأم المؤمنين فى واقعة «إرضاع الكبير»
لم يقتصر الظلم الذى تعرضت له «عائشة» على كتب التراث، وإنما نالتها الإساءة من بعض المشايخ المعاصرين، ومنهم الداعية السلفى أبوإسحاق الحوينى.
وتأتى إساءة «الحوينى» وغيره من المشايخ لزوجة النبى لنقلهم بشكل حرفى من المصادر التراثية، شبهات وشائعات تهين زوجة النبى، دون التحقق منها عقليا، ومن بينها القصص المنسوبة لها عن رضاعة الكبير! فأبو إسحاق الحوينى الذى رفض أى رأى يقول بضعف القصة المنسوبة التى يستدل بها على إرضاع الكبير، وتقول إن سهلة بنت سهيل بن عمر جاءت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: إِنِّى أَرَى فِى وَجْهِ أَبِى حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ عَلَى كَرَاهَةً، فَقَالَ: «أَرْضِعِيه»ِ فقَالَتْ: كيف أُرْضِعُه، إنه رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ فتبسم النبى، ثُمَّ قَالَ: قد علمت أَنَّهُ كَبِيرٌ؟».
واعتمد «أبو إسحاق» لإثبات صحة «إرضاع الكبير» لحديث منسوب لعائشة، وملخصه أنها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد، أمرت بنات أخواتها وإخوتها أن يرضعنه فيدخل عليها بتلك الرضعة، فتبقى خالته من الرضاعة أو عمته من الرضاعة، على حد قول الحوينى!!
وحديث الحوينى بالطبع ليس تأليفًا منه، بل نقلًا عن كتب تراثية مهمة فى التراث الإسلامى، الأمر الذى يؤكد وجوب عملية تنقية التراث وتنقيحه، وفق معطيات جديدة ورؤى حداثية ومنطقية وعقلانية، وليس استنادًا فقط إلى صحة نسب الرواية.
وفى كتاب «صحيح سنن أبى داود» يذكر محمد ناصر الدين الألبانى، أحد أهم المحدثين بالنسبة للسلفيين والوهابيين، أن حديث إرضاع بنات أشقاء السيدة عائشة للكبار صحيح على شرط البخارى، وصححه الحافظ، ومن قبله ابن الجارود!!
ويذهب «الألبانى» فى المجلد السادس صفحة 302 من كتابه، طبعة مؤسسة غراس 2002، إلى أنه «بذلك كانت عائشة تأمر بناتِ أخواتها وبناتِ إخوتها أن يرضعن مَنْ أَحَبَّتْ عائشة أن يراها ويدخل عليها - وإن كان كبيراً - خمس رضعات، ثم يدخل عليها!! وأَبَتْ أمُّ سلمة وسائر أزواج النبى أن يُدْخِلْنَ عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس؛ حتى يَرْضَعَ فى المهد، وقلن لعائشة: والله! ما ندرى؛ لعلها كانت رخصةً من النبى صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس»!
ولنا أن نتخيل السيدة عائشة، زوجة النبى، وقد أوقفت بنات أخواتها وإخوتها فى مقدمة الدار ليرضعن أى ضيف غريب، وهو مشهد يتخيله الحوينى، ويشوه صورة زوجة من زوجات النبى، لكن من يجرؤ أن يتناول «الحوينى» أحد الفطاحل الكبار وأصحاب السطوة والشهرة والأتباع الكثر، الذى ينصب نفسه فوق ما يسميه بـ«إجماع العلماء»، ليمتلك وحده حق إقرار الإجماع أو رفضه.
الطفلة العروس.. زوجة تلهو بأرجوحة!
ومن ضمن المسائل التى تثير خلافًا كبيرًا فى الدراسات الإسلامية، قضية سن السيدة عائشة وقت زواجها بالرسول، ورغم أن الدراسات التاريخية التى أجريت على القضية، تشير أغلبها إلى تراوح عمر أم المؤمنين بين السابع عشر والتاسع عشر وقت زواجها، فإن السلفيين يتمسكون برواية زواجها فى السادسة من عمرها والدخول بها بنت تسع، الأمر الذى يُستغل كثيرًا فى تبرير زواج القاصرات.
ويتمسك السلفيون بالرواية الواردة عن السيدة عَائِشَةَ أنها قَالَتْ: (تَزَوَّجَنِى النَّبِى وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِى بَنِى الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ فَوُعِكْتُ [أي: أصابتها حمى] فَأَتَتْنِى أُمِّى أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّى لَفِى أُرْجُوحَةٍ وَمَعِى صَوَاحِبُ لِى، فَصَرَخَتْ بِى فَأَتَيْتُهَا لَا أَدْرِى مَا تُرِيدُ بِى، فَأَخَذَتْ بِيَدِى حَتَّى أَوْقَفَتْنِى عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّى لَأُنْهِجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِى، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِى وَرَأْسِى، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِى الْبَيْتِ فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ. فَأَسْلَمَتْنِى إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِى فَلَمْ يَرُعْنِى إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى فَأَسْلَمَتْنِى إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ) رواه البخارى (3894) ومسلم (1422).
وظهر خطورة الاستدلال بهذه الرواية أثناء إعداد دستور 2012، والمعروف بدستور الإخوان، حيث أثيرت قضية تقنين سن الزوج، وأفصحت الحقوقية منال الطيبى أن ممثلى التيارات الإسلامية بلجنة إعداد الدستور، بخاصة أعضاء حزب النور، طالبوا بتحديد سن الزواج بتسع سنوات، ثم دار نقاش إعلامى بين الطيبى وياسر برهامى نائب رئيس الدعوة السلفية، واستند الأخير إلى الآية «وَاللَّائِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِى لَمْ يَحِضْنَ»، سائلًا الطيبى «إيه تفسير الآية عندك يا دكتورة؟، جيبوا لى تفسير من عند أهل العلم فى الآية، أنا بأقول آية من كلام الله»، فقالت الطيبى: «حضرتك قلت والتى لم تحض»، ليرد «آه ما أنا بأتكلم عن آية مش بأتكلم على أنا.. دأنا بأقول قال الله.. ما تقولوش تفسير.. أنا ما فسرتش.. ربنا اللى بيقول»!! وحين قالت له الطيبى: «ده معناه أنه فى أى سن، ومش شرط سن البلوغ»، فرد برهامى «حضرتك أنت مقتنعة بالقرآن ولا لأ؟».
السؤال هنا، أليس من المنطقى والعقلانى أن نراجع مسألة سن الزواج بدلًا من الدفاع عن رواية تُستغل لتشويه صورة الإسلام ورمزه، والتى بسببها (الرواية) ترتكب مئات الجرائم يوميا لزواج فتيات قاصرات لم تبلغن السن القانونى للزواج.
الفتنة لا تطلع من مسكن «عائشة»
استغل العديدون، الحديث الوارد بصحيح البخارى والقائل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار لمسكن «عائشة» وقال «هنا الفتنة ثلاثاً من حيث يطلع قرن الشيطان»، باعتباره نبوءة، نبوية بأن «أم المؤمنين» ستكون هى مشعلة الفتنة بين المسلمين، فى واقعة الجمل، بعد خروجها إلى البصرة.
وانبرى علماء ومحدثون فى الدفاع عن «عائشة»، دون التشكيك فى صحة الحديث، الذى روى بأكثر من شكل وصيغة، فزعم البعض أن الرسول كان يشير نحو المشرق، وليس إلى مسكن عائشة، وهو الرد الذى تنفيه رواية أخرى للحديث وردت فى مسند أحمد تقول «خرج رسول الله من بيت عائشة فقال: إن الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان»، وهو ما لم يتضمن واقعة «الإشارة للمشرق»، وبالتالى جاءت ردود العلماء ضعيفة وهشة من السهل نقضها.
ومن المتعارف عليه أن عددًا كبيرًا من الأحاديث وردت بصيغ تحذيرية من أماكن وأشخاص، تتشابه روايتها بشكل كبير، مثال على ذلك الحديث الوارد فى البخارى، حيث دعا الرسول «اللهم بارك لنا فى شامنا وفى يمننا فقالوا وفى نجدنا قال اللهم بارك لنا فى شامنا وفى يمننا، فقالوا وفى نجدنا فقال هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان»، وذلك ما يجعل هناك شكا فى الرواية أصلا.
وكان الادعى بعلماء الأمة، أن ينظروا فى الاختلافات الواردة فى الرواية، للتشكك فى صحتها، التى حُملت «عائشة» بسببها الفتنة الكبرى التى قتل فيها 10 آلاف مسلم، على رأسهم عدد من كبار الصحابة مثل طلحة، والأمر لم يعد أكثر من مجرد صراع سلطوى.
واختلف باحثو التراث فى صحة موقف خروج عائشة بنت أبى بكر، إلى الكوفة، وتدخلها فى الصراع الدائر بين المسلمين على خلفية مقتل عثمان بن عفان، فمنهم من رأى أن «أم المؤمنين» أخطات بمغادرتها المدينة، والبعض يبرر تدخلها بإرادتها الصلح بين الطائفتين المتقاتلتين، ولكن الأهم أن اتهام «أم المؤمنين» بالتسبب فى الحرب ظالم، والاستدلال بحديث الرسول عليه غير مستقيم.
الشيعة يبرئون«أم المؤمنين»
برغم أن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية على خامنئى، أصدر فى 2010 فتوى واضحة تحرم الإساءة فيه إلى أى رمز دينى، وتحرم الإساءة إلى زوجات النبى، وجاء نصها «يحرم النيل من رموز إخواننا السنة فضلاً عن اتهام زوج النبى (صلى الله عليه وآله) بما يخل بشرفها، بل هذا الأمر ممتنع على نساء الأنبياء وخصوصاً سيدهم الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)»، إلا أن المشددين من الشيعة لا يزالون يوجهون الإساءات لها بشكل متوالٍ، ووصل الأمر لبعضهم لاتهامها بممارسة الزنا.
ويستند غلاة الشيعة فى الهجوم على عائشة لموقفها من الإمام على بن أبى طالب، مستندين أيضا لروايات غير ثابتة تقول إن «أم المؤمنين» لم تكن تحب على بن أبى طالب، وأنها لم تنس أنه طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم تطليقها، وظلت تحمل له ذلك حتى بعد حصوله على البيعة كأمير للمؤمنين، حتى خروجها للبصرة طلبا للثأر من قتلة عثمان.
والغريب أن الشيعة يبرئون أم المؤمنين من حادثة الإفك، فى ظل تداول الغلاة والمنحرفين من المنتمين للمذهب الشيعى، لقصص وروايات فاسدة وبغيضة، بعضها يقول بارتكاب أم المؤمنين (تعالى مقامها) وقائع مشينة، وكلها أقاويل باطلة لم يثبت لها سند ولا صحة.
ويذهب علماء المذهب الشيعى إلى أن السيدة عائشة لم تك هى المتهمة فى حادثة الإفك، ويرفضون الرواية المسندة إلى أم المؤمنين فى «البخارى»، والتى تسرد خلالها وقائع الحادثة، والتى اتهم فيها صفوان بن المعطل، ويعتقد أبناء المذهب الشيعى أن المتهمة فى حادثة الإفك كانت السيدة مارية القبطية مع مأبور القبطى، وهى حادثة ثابتة، وتم تبرئة أم المؤمنين «مارية» منها أيضا، إذ اكتشف أن «مأبور» الذى تم قتله «مجبوب» أى مقطوع الذكر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة