تحدثنا فى المقالة السابقة عن تلك الجُدران التى يبنيها الإنسان بينه وبين الله فتُفقده سر سعادته وسلامه فى طريق الحياة، إذ كما قيل: "من يَسِر مع الله، فقد ملك كل شىء. ومن يملِك كل شىء، وليس هو مع الله، فهو لا يملِك أى شىء"، وعلى الإنسان أن يَهدِم تلك الجُدران بتعضيد وقوة من الله، وحينئذ فقط، يُدرِك معنى الحياة.
ومن الجُدران التى قد يبنيها الإنسان، تلك التى يُقِيمها بينه وبين نفسه، ومنها عدم إدراكه لإمكاناته الحقيقية، فيضع لنفسه حدودًا لا يتخطاها؛ وبذلك يخسِر كثيرًا من الفرص. ويذكِّرنى هذا بقصة قرأتُها، عن طفلة صغيرة مرَّت مع والدتها فى أحد الأنفاق، لتجداه قد أُغلق بسبب احتباس شاحنة فيه لم تتمكن من العبور لارتفاعها؛ وكان المشهد مثيرًا، فقد أحاط بالشاحنة رجال الإطفاء والشرْطة، يقومون بمحاولات عاجزة لإخراجها من النفق؛ فإذا الفتاة الصغيرة تَصيح لأمها قائلة: أمى! أنا أعرف طريقة إخراج الشاحنة من النفق!! لكن الأم لم تصدق كلمات ابنتها، ونظرت إليها فى استنكار قائلة: إن هذا أمر غير معقول! فهل جميع هؤلاء الرجال المدربين لا يستطيعون إخراجها، وأنتِ من يمكنه فعل هذا! وأسرعت الأم بابنتها للمغادرة دون أن تقدم أدنى فرصة إليها فى أن تُكمل شرح ما تفكر فيه. إلا أن الطفلة سارعت بالاقتراب من أحد الضباط، وقالت: سيدى، يمكن الشاحنةَ أن تمر، إن أنتم أفرغتم بعض الهواء من إطاراتها! اندهش الضابط من كلمات الفتاة، ولكنه سِرعان ما أخذ ينفّذ اقتراحها. وبالفعل مرت الشاحنة وحُلت المشكلة، ولتُكرَّم تلك الفتاة الصغيرة فيما بعد.
كثيرًا ما يبنى الإنسان جدارًا من الأفكار عن ذاته ومواهبه وقدراته فتصير حياته صدًى لخَطوات سار فيها آخرون فى الدرب، وقد كان فى إمكانه صنع طريق يقتفى آثاره آخرون. وهنا يكمن الفارق الهائل بين عظماء الحياة والآخرين، فالعظماء حاولوا وجربوا دون يأس إلى أن اكتشفوا ما لديهم من قدرات، واستخدموها فى شق طرق جديدة فى حياتهم، فخطّوا قِصصهم على صفحات التاريخ. لذلك، لا تيأس، ولا تضع حدودًا لإبداعاتك، بل حاول مِرارًا وتَكرارًا إلى أن تصل إلى تحقق حُلمك وآمالك على أرض الواقع.
جدار آخر فى حياة الإنسان: أن ينشغل بالحاضر، تاركـًا أمر مستقبله. وسواء كان هذا الانشغال هو فى سعادة أو ألم، فهو يُفقِد معهما المستقبل! أعجبنى أحد الملوك الذى طلب من وزيره أن يكتُب له جملة واحدة، إذا قرأها وهو سعيد حزن، أو إذا قرأها وهو حزين فرِح. فعاد إليه الوزير الحكيم بجملة تقول: "هذا الوقت سوف يمضي"، نعم، كل الأمور ـ بحُلوها ومُرها ـ سوف تمضي، لذلك لا ترسِم حياتك ومستقبلك على أحداث تمضي، بل على مستقبل يحمل الأمل وقد تحول إلى واقع وهدف عظيم يحمل الخير إليك. إننا حينما نمضى إلى حياة الخُلود والأبدية، نحمل معنا فيها الخير الذى قدَّمناه ليكون راحتنا وسعادتنا اللتين لن تمضيا. وللحديث بقية.
• الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى .
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة