هناك مساحة واسعة بين "المتاح" وهو الواقع الذى نعيشه وبين "المثالى" وهو المستقبل الذى نتمناه.. وتطلعاتنا وأفكارنا يجب أن تكون مزيجا بين الاثنين حتى نصل إلى حلول منطقية تنتقل بنا من المتاح إلى المثالى أو على أقل تقدير تعالج سلبيات الواقع لنستطيع الحياة فيه، ولو نظرنا للعديد من مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية من هذا المنطلق لتضاءلت حدة النقاش ولقلت الفجوة بين الآراء ولهدأ الناس قليلا، ومؤخرا اختلف الناس حول القانون الذى أصدرته وزارة العدل الخاص بأن يلتزم الزوج الأجنبى بوضع شهادات استثمار لصالح الزوجة المصرية بخمسين ألف جنيه لو كان أكبر منها بخمسة وعشرين عاما، اختلفت الآراء وتناقضت بين سقف المثالية وبين انحطاط الواقع، ولكن دعونا فى البداية نناقش الإشكالية التى كانت السبب فى إصدار هذا القانون.
فمنذ عقود طويلة انتشرت ظاهرة زواج العجائز من أصحاب الأموال النفطية بالبنات الريفيات الصغيرات من مختلف ربوع مصر، حتى أن بعض القرى والمحافظات اشتهرت بذلك وأصبح هذا النوع من الزواج أشبه بالدعارة المقنعة التى تبيع فيها الأسرة بناتها الصغار بهدف التكسب أو الحصول على المال من الزوج الغنى، والذى غالبا ما يتزوجها حتى تنتهى منها متعته فتعود الزوجة بعد شهور مطلقة وعلى كتفها طفل يعيش معها فى فقر مدقع أو تحصل فى أفضل تقدير على معاش استثنائى من وزارة التضامن الاجتماعى لأنها مطلقة تعول بلا عمل.
ويستكمل العجوز البترولى القذر متعته الداعرة مع العشرات من أمثالها بلا أن يربى طفلا أو يؤسس بيتا، ويتحمل المجتمع والدولة الثمن، ورغم اعترافنا الجماعى بأن غالبية هذه الزيجات أقرب إلى الدعارة المقنعة، إلا أن هناك استحالة فى أن يصدر قانون يجرمها أو يمنعها لأن الدولة بهذا المنع تعارض شرع الله وتحد من الحرية التى نص عليها الدستور، كما أن القانون لا يصدر لمحاكمة النوايا فأى رجل يمكن أن يتزوج لهدف النكاح فقط وفى نيته أن يطلق زوجته بعد حين بلا أن يؤسس بيتا أو يربى طفلا، فهل يمكن أن نضع قانونا يجرم النوايا السيئة؟. على ذلك فإن هذا القانون الجديد على أقل تقدير سيعالج الآثار المترتبة على هذه الجريمة، خاصة أن أغلب الفتيات اللاتى يتزوجن من هؤلاء العجائز مجبرات على ذلك، وغالبا ما يأخذ الأب أو الأم أو الأخ الثمن لتعود الفتاة بعد ذلك مطلقة بطفل بلا حول ولا قوة.
لا خلاف فى أن سبب هذه المرض الخبيث الذى أصاب مجتمعنا هو الفقر والجوع والجهل والطمع وقلة الوعى الدينى والأخلاقى.. إلخ، لكن هل يمكن أن نعالج هذه الأسباب دفعة واحدة ليستقيم الحال رغم أن الواقع يثبت لنا أنها تتفاقم وتزيد أم علينا أن نعالج الأعراض حتى نصل إلى المثالية أو المجتمع المتوازن الذى نطمع فيه جميعا، على ذلك فإن الدولة لا تشرع الدعارة المقنعة بهذا القانون أو تبيع البنات كالبهائم كما أنها لا تقفل باب الزواج فى مجتمع نصفه عوانس كما يدعى البعض، بل تحاول أن تضمن الحقوق فى هذه الزيجات المشبوهة، وأن تضمن للزوجة حياة شبه كريمة بعد الكارثة التى عاشت فيها.
لذلك علينا أن نطالب القانون بأن يضاعف هذا المبلغ حتى نضع عراقيل أمام العجائز الأجانب ولا نصبح لقمة صائغة لنزواتهم الرخيصة، ويجب أن يتسع النقاش فى هذه الجريمة حتى يصل الصراخ إلى أهالى الضحايا فى القرى والنجوع، لأن الأصل فى تنظيم علاقات الزواج يبدأ من المجتمع ولا يمكن أن تحكمه الدولة، إلا لاستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية كثيرة أن تمنع مئات الآلاف من الزيجات التى تتم سنويا للحصول على الجنسية أو على الإقامة، فهناك أسواق فى الولايات المتحدة أقيمت لهذا الغرض ولا يمكن للدولة أن تتحكم فيه أو تمنع أى زواج مهما حامت حوله الشبهات، لذلك فلن تقل أو تنتهى هذه الظاهرة إلا بتكاتف المثقفين مع المتعلمين مع رجال الدين لتغيير المفاهيم المغلوطة حول شرعية هذا الزواج وحتى تصير الأسرة أو العائلة التى تبيع بناتها بهذا الشكل موصومة ومفضوحة بين الجميع.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة