عن ذلك الهوس المميت الذى أصابنا فضاع الحق بيننا، كما تضيع نقطة مياه عذبة فى بحر مالح، عن هذا الظلم الممنهج الذى نرتكبه كل يوم دون أن نشعر بتأنيب ضمير أو أن نتحلى بفضيلة المراجعة.
المتابعون لمواقع التواصل الاجتماعى ونزواتها يدركون تماما مدى انتشار الهوس بالكاميرا الذى أصاب المواطنين، فقد أصبحت تلك المواقع مادة خاما لكل من يريد أن يدرس ظاهرة «النفاق الاجتماعى»، فمن يريد أن يمدح مديره يكتب «بوست» على الفيس بوك، ومن يريد أن يعلن عن حبه لحبيبته يكتب «بوست» على «الفيس بوك»، ومن يريد أن يلسن على هذا أو ذلك يكتب «بوست» على الفيس بوك، وكل من يريد أن ينشر شائعة يكتب «بوست» على الفيس بوك، لكن وبرغم الإسراف فى هذا الأمر أصبح ممجوجا ومنفرا، فقد يكون هذا الأمر مقبولا إذا تعلق بالحياة الشخصية لكل فرد، لكن إذا ما تعلق بالعمل وتفاصيله وإجراءاته فإن هذا الأمر يصبح خطيرا وغير مقبول، ولهذا فقد تابعت قضية إحدى موظفات الطب البيطرى بمزيد من الاهتمام، فقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعى بهذه القضية بعد الادعاء بأنه تم نقل الموظفة وإحالتها إلى التحقيق، بسبب كشفها للفساد فى سلسلة مطاعم كبرى، بعد أن امتلأت صفحات الفيس بوك بصورها، وهى تقوم بعملها بمصادرة كميات من اللحوم التى تعتقد أنها فاسدة، بينما قيل إن السبب الحقيقى هو أنها تشهر بتلك المحال وتسىء إليها قبل ثبوت الاتهام، وبين هذا وذاك دخلت مواقع التواصل الاجتماعى فى حالة من الهيستريا التأييدية لتلك الموظفة، وللأسف سارت بعض القنوات الفضائية على هذا النهج، وأصبحت تلك القضية من أهم القضايا المطروحة إعلاميا، لتضيع بتلك الضجة بشائر الحقيقية وحقوق الناس من أجل «حفنة لايكات».
هنا أنا لن أكون محايدا ولن أمسك العصا من المنتصف، فما يحدث فى العالم الافتراضى أصبح خطرا حقيقيا على العالم الحقيقى، ولذلك فإنى أرى أن ما قامت به هذه الموظفة جريمة مكتملة الأركان، فالواحد يعمل من أجل أن يعمل، وليس من أجل أن يصور نفسه وهو يعمل وينشر صوره على الفيس بوك، والأصل فى العمل هو «النبل» و«الشرف» وليس ما دون هذا، وجريمة هذه الموظفة هى أنها تغولت على مؤسسات الدولة وقفزت على درجات التقاضى المتعددة، وأصدرت حكمها بفساد كل من تعتقد هى أنه فاسد، هذا على افتراض حسن النية فى الأمر، فدرجات التقاضى المتعددة فى مثل هذه القضايا كفلت للمتهمين حق الدفاع عن أنفسهم وحق نفى التهم الموجهة إليهم من مثل هذه الموظفة، بل إثبات عكسه تماما، ومع كل هذا نردد دائما أنه «ياما فى الحبس مظاليم»، فبأى حق تتجنى هذه الموظفة على أناس «ربما» يكونون أبرياء؟ وبأى حق تتغول على مؤسسات الدولة بهذه الجرأة؟
نعم الكثير من المطاعم «فاسدة»، ونعم صحتنا غالية، بل أغلى ما نملك، لكن أرزاق الناس وسمعتهم ليست لعبة أيضا، ومن الظلم كل الظلم أن نصيب قوما بجهالة، دون، حتى، أن نصبح على ما فعلنا نادمين.