الزيارة الأولى:
فى الوقت الذى حظيت به زيارة بابا الكنيسة الأرثوذكسية، البابا تواضروس، للقدس بكل الاهتمام من جانب الإعلام المحلى، ونال نيافته ما نال من هجوم كبير لهذه الخطوة غير المسبوقة، رغم أن الرجل والمتحدثين باسمه أعلنوا مرارًا وتكرارًا أن الزيارة جاءت لأسباب روحية، وليست سياسية، بدليل أن قداسته لم يلتقِ بأى مسؤول سياسى بشكل رسمى، إلا أن الجدل الذى دار من اتهامات من البعض، ودفاع من آخرين، أعاد ثانية وجوب وضرورة أن نعيد ونتفق على صياغة تعبير المقاطعة للعدو الإسرائيلى، فحين ظهر هذا التعبير والمطالبة به كان فى سبعينيات القرن الماضى، صحيح أن إسرائيل مازالت تحتل فلسطين، وصحيح أنها مازالت تمثل عدوًا لنا يجب أن نحذره، ونعمل له ألف حساب، ولكن ما هو صحيح أيضًا أن آليات الصراع وشكله وتفاصيله تغيرت.
ولذا فعلينا أن نعيد تقييم المواقف وشكلها وتفاصيلها، ليس بأن نأخذ إسرائيل بالأحضان، ولكن لنتأمل، هل شكل المقاطعة التى فرضناها على أنفسنا هى الأمثل، وكم أتت بنتائج، وما مستوى هذه النتائج مقارنة بما نريده؟... إلخ من أساليب علمية لتقييم المواقف، ولكن نخبتنا جامدة، ومراكزنا العلمية جبانة أمام الصوت العالى، والدولة مهمومة بمشاكلها مع أعداء آخرين صاروا فى أولوية العداء أكثر من إسرائيل فى الوقت الحالى، فهل يجوز لنا كل هذا الهجوم على رجل ذهب لصلاة جنازة على ميت؟!
الزيارة الثانية:
وفى مقابل الزيارة الأولى لبابا الكنيسة الأرثوذكسية التى حظيت بكل الاهتمام المحلى، لم يأت من بعيد أو قريب حتى ذكر لزيارة أخرى تمت فى التوقيت نفسه تقريبًا، وهى زيارة البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، لأفريقيا، والتى تعد الأولى من نوعها، خاصة زيارته لدولة أفريقيا الوسطى، فإعلامنا أحادى النظرة للأسف، ويجهل أو ربما يتجاهل ما لا يفهمه، وللحق فإن زيارة البابا فرانسيس زيارة تاريخية، وكان يجب علينا كإعلام ومسلمين أن نهتم بها أكثر من أى خبر آخر، بابا الفاتيكان ذهب رغم التحذيرات الأمنية لزيارة دولة ملتهبة بالصراع الدينى، وتتم فيها إبادة المسلمين الذين يشكلون %20 من نسبة السكان.
ذهب البابا ليطالب رعية الكنيسة بالتسامح وحقن الدماء والرحمة، كما تعاليم المسيح، ولم يكتفِ بنصح المسيحيين، لكنه أيضًا فعل ما هو أكثر تأثيرًا، فقد ذهب لزيارة المسلمين، وكذلك زيارة مسجدهم، ليؤكد ما قاله.
أفريقيا الوسطى دولة تحتل قلب أفريقيا، وفيها من الثروات من ذهب وماس ومعادن وأرض زراعية ما كان يجب أن يحولها لجنة، ولكن الصراعات التى تذكيها فرنسا وغيرها من دول الغرب، وفساد بعض أهلها وعقولهم حولها لأفقر دولة فى العالم، وأيضًا لنهر دماء يدفع ثمنه المسلمون فى هذا البلد البائس، وها هو رأس الكنيسة يذهب للمسلمين والمسيحيين معًا ليقول لهم احقنوا الدماء، فالدين- أى دين- منكم براء.
هذه هى الرسالة الحق للأديان التى نادت بها السماء، ولكن البشر حولوها لرسالة دموية يتقاتلون باسمها، بينما هم للحق يتقاتلون حول السلطة، ويدفع الدين وسمعة الدين وفقراء العالم ثمنًا لبضاعة لا يشترونها.
زيارتان لهما دلالتان واضحتان لو أردنا قراءتهما، أولاهما أن آليات الصراع يجب أن تتم إعادة النظر فيها، وثانيهما أن الدين لله والأوطان يجب أن تكون للجميع، ولكن هل هناك من يسمع أو يعى.. لا أظن!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة