منذ ثمانية عشر عاما بالتمام والكمال، كانت الثقافة المصرية «تترنح» بشكل حقيقى، عشرات المبدعين أصابهم الإحباط وأكلهم اليأس، عشرات المبدعين كانوا يكتبون ولا ينشرون، عشرات المبدعين اضطروا إلى الصمت استسلاما، عشرات المبدعين اضطروا إلى الانزلاق فى نفق نفاق المسؤولين الحكوميين للظفر بنشر كتبهم فى مؤسسات الدولة أو الانزلاق فى مجاراة تعليمات أصحاب دور النشر الكبيرة وقتها، ليظفروا برضا صاحب دار النشر، وينعموا برؤية كتابهم الوليد، كانت دور النشر الكبرى تعانى من تجلط فى أوردتها، وكانت دور النشر الحكومية تصيبنا بتجلط فى أوردتنا، كم من مبدع تافه أصبح مبدعا كبيرا بين ليلة وضحاها لمجرد أنه تولى منصب مدير تحرير سلسلة أدبية، وكم من مبدع كبير قتل بيد اليأس لمجرد أنه لا يجيد نفاق التافهين أو مدح الفاسدين، كان الوضع مأساويا بمعنى الكلمة، إبداع يموت كل يوم، من غير أن يجد من يأسى على حاله أو ينتفض لنجدته، وملأ الصورة قتامة هو أنه نمى فى ذلك الوقت تيار جديد من المبدعين الذين يريدون أن يتحرروا من القوالب القديمة، لكنهم كانوا يصطدمون دائما إذا ما فكروا فى نشر إبداعاتهم بالحوائط القديمة فتتحطم أحلامهم.
فى هذا التوقيت جاءت محمد هاشم وبعض من أصدقائه المخلصين فكرة إنشاء دار نشر جديدة، تتمرد على هذا الوضع البائس، فتأسست «ميرت» التى أصبحت بين ليلة وضحاها أملا للمبدعين وملاذا من الضيم والإذلال والخذلان، كانت «ميرت» مظلة حامية من الانزلاق فى مستنقع امتهان الإبداع، ونافذة فتحها «المجاهد» محمد هاشم لننظر من خلالها إلى الوعد بالآتى، وسرعان ما أصبحت «ميرت» صخرة تحطمت عليها الصيغ القديمة والعلاقات القديمة والأطروحات القديمة، فتحولت إلى معلم من أهم معالم مصر الثقافية فى بضع سنوات، وصار إنتاجها الفكرى والثقافى «أرشيف» حقيقيا للحظة الإبداعية فى مصر، يتجه إليه كل من يريد أن ينظر إلى إبداع مصر الحقيقى.
كانت ميرت «صخرة» إليها يلجأ كل الذين يريدون الحقيقة دون عمليات تجميل أو ترقيع، صخرة ترتفع عن موبقات الحياة الثقافية المعلبة التى صنعها جيل قديم لم يؤمن بشىء إلا بنفسه، فلا نفسه استفادت ولا ترك للجيل الجديد متنفسا، كانت صخرة يلجأ إليها معارضو النظم البالية ومناهضو الجلطات الثقافية، ومن خلال تلك الصخرة ارتقى غالبية مبدعى اليوم سلم التحقق الأدبى والثقافى، وأصبحوا اليوم ملء السمع والبصر، ولأن «ميرت» كانت شيئا حقيقيا فى عالم زائف، ولأنها كانت «صاحبة دعوة» فى واقع «جاهلى»، ولأنها كانت صاحبة الصوت العالى فى صمت الكبت السياسى والثقافى، فقد تعرضت عشرات المرات للتعثر والتنكيل، حتى كاد «محمد هاشم» أن يعلن إغلاقها، لكن «ميرت» فى كل مرة كانت تنهض من جديد، واليوم تفتتح «ميرت» مقرا جديدا بروح جديدة وحلم جديد، لتضيف إلى مفهوم دار النشر مفاهيم جديدة، يندمج فيها الناشر بالقارئ عبر مكتبة اطلاع مجانية، ويشتبك فيها النص بالصورة عبر جاليرى دائم، ويتحول هاشم فيها إلى أسطورة تشبه أسطورة العنقاء التى لو حاول أحد إحراقها، فإنها تولد من جديد أقوى وأجمل.