جربت صدمة اللون إذا جاز الوصف ثلاث مرات الأولى مع اللون الأصفر والثانية مع الأخضر والثالثة مع الأبيض!.. ولكل مرة ظروفها وسياقها وما يجمعها هو السفر وزيارة أماكن جديدة.. ورؤية الناس!
ولدت فى قرية بوسط الدلتا كما سبق وكتبت ولم أكن شاهدت الصحراء حتى تخطيت العشرين، وبعد عدوان 1967 تم تهجير سكان مدن القناة وبعض ريفها إلى الدلتا والوادى، واختار سكان سيناء الذين غادروا أن يسكنوا فى أرض بديلة تشبه أرضهم!، واختار بعضهم مديرية التحرير والبعض الآخر أطراف محافظة الشرقية! ومازلت أذكر ذلك اليوم الذى صاحبت فيه شيخنا والدراويش لنزور إخوة لنا فى الله يقيمون فى مديرية التحرير، وما أن اقتربنا من حافة الصحراء الغربية حتى أصطدمت عيناى ببحر من الرمال الصفراء على مدى البصر فيه تموجات وفيه درجات للصفرة التى عرفت من «الإنترنت» أنها تبلغ حوالى ثمانى درجات، فيها الذهبى والنحاسى والأشقر الغامق والأشقر والأشقر الباهت والكاكى الغامق والكاكى والأصفر!!
وإذا كنت وأنا من بلد تبلغ مساحة الصحراء فيه أكثر من 95 بالمائة من مساحته الكلية، ولم أتمكن من مصافحة صفرتها حتى تخطيت الشعرين، فما بالك باللون الأبيض الذى عرفت أيضا ومن المصدر نفسه أن له بدوره درجات، منها الأبيض والأبيض الدخانى والثلجى والحليبى والعاجى وغيرها!! وهو اللون الذى يغطى مساحات هائلة من الكرة الأرضية عند عروضها العليا الشمالية والجنوبية، وقد كنت فى كندا واصطدمت عيناى بالأبيض الثلجى الذى قد يعمى البصر!
أما صدمة الأخضر بدرجاته هو الآخر، فقد كانت فى رحلة طويلة من فرنسا إلى سويسرا إلى ليختنشتاين ثم ألمانيا ثم النمسا مرورا بجبال الألب التى يمنع المرور منها بعد الساعة الرابعة نهارا ولن أقول عصرا لأنهم لا يعرفون العصر هناك وبعدها العودة من طريق آخر يؤدى إلى شمال فرنسا ولم نمر على سويسرا.
فى صدمة اللون الأصفر الذى أمسك بتلابيب بصرى وعقلى ولا أنساه للآن، رغم مرور حوالى ستة وأربعين عاما، التقيت للمرة الأولى بإخوتى فى الله حسب المصطلحات الصوفية من أهلنا فى سيناء.. وكانوا جميعا من شمال شبه الجزيرة ومعظمهم من قبائل السواركة والترابين والرميلات والعريضات، وجلست مع صديقى الرائع المغفور له بإذن الله الشيخ على بن حسن بن خلف، وهو من بطن تسمى «أولاد الذروة» من قبيلة السواركة.. وكان نائبا فى مجلس الأمة آنذاك، ويرتدى الغترة والعقال والجلباب والعباءة «العباة»، ولون بشرته أبيض مشرب بحمرة لوحته الشمس ويدخن بشراهة وكأنه يأكل السيجارة، وشأنه شأن معظم سكان البادية فى مصر وغيرها تصاب أسنانهم ولثاهم بالتغير نتيجة نقص عناصر معينة فى الغذاء والماء وتركيز عناصر أخرى خاصة فى الماء!! وعند وصولنا يتقدمنا مولانا البرزخى الآن محمد بن إسماعيل الليثى النمر مؤسس أحباب الصفاء المحمدية وذو الأصول البيومية نسبة إلى سيدى على البيومى ذبحت الخراف، وبدأت تسوية الطعام وتذوقت لأول مرة لاحظ تكرار أنها أول مرة.. غير مرة!! أطيب فتة «تزيد» تعلوه هبر اللحم الضانى المسلوق.. والأكل بالأصابع والجلوس على ركبة ونصف مع تقديم الجانب الأيمن للجسد.. يعنى كلنا جالسين «بالورب» حتى تستطيع أيدينا الوصول لقصعة الفتة.. بينما يمين الشيخ على خلف تفصص اللحمة وتنثر قطعه أمامنا على سطح الفتة. ثم استرحنا وقمنا لصلاة العصر وبعدها انعقد مجلس دائرة حتى المغرب!
من بوابة حضرة النائب الشيخ على بن حسن بن خلف دخلت عالم سيناء الغالية.. ومن مديرية التحرير كانت الزيارة الثانية قد رتبت للذهاب إلى «جزيرة سعود» عند أطراف محافظة الشرقية للقاء القطب الصوفى السيناوى الكبير مولانا الشيخ «عيد أبوجرير» من بطن الجريرات من قبيلة السواركة أيضًا، وصلنا حافة الامتداد الرملى الشرقى لمصر وهو أقل هيبة وروعة من الروع أى الخوف والرهبة من الآخر الغربى المؤدى لبحر الرمال العظيم.. وكان فى استقبالنا عند نزولنا من السيارات الشيخ منصور أبوجرير الأخ الأصغر للشيخ عيد، ومجموعة من القائمين على خدمة المكان من أهل الشيخ عيد ومريديه!، وتكررت طقوس الذبح والتزيد أيضا ولكن مع إضافة مهمة بالنسبة لى، لأننى من عشاق البامية.. حيث كان إلى جوار قصعة الفتة أطباق من البامية المطهوة بمرق لحم الضأن وأطباق من سلطة الطماطم المختلفة بفلفل حامى دون بصل!!.. وبعد صلاة العصر كنست مساحة مستطيلة واسعة بجوار المسجد وأمام غرفة المقعد ورشت بالماء.. ورصت «شلتات» وراءها مساند مسنودة على جدار المقعد الدوار بلغتنا الدلتاوية وفيما بعد عرفت أنها مهيأة لجوس الشيخ عيد ومن يختاره من الضيوف!.. ولم يمض وقت قصير حتى أهل رجل فارع الطول يرتدى الغترة ومن فوقها عقال مختلف ليس هو الحبل المجدول أسود اللون الذى يلتف فى دائرتين حول الرأس وأحيانا يتدلى منه خيطان على القفا والظهر، وإنما هو عقال من ثلاثة صفوف تعلو بعضها ولا تدور حول الرأس وإنما هى تلتقى بأضلعها عند عقد كبيرة وكلها مجدولة من الخيوط القصبية المذهبة مثلما كان هو عقال الملك سعود.. وأطل الرجل الذى لا أبالغ إن قلت إن الانطباع الأول والمستمر لوقت قد يطول حتى يتم التواصل الإنسانى، هو كأنك تشاهد أسدا على هيئة البشر، فليس من حيث الشكل فقط، وإنما الهيبة التى تجعل الرائى مشدودا صامتا مستسلما مأخوذا تعتريه خواطر بلا حصر!
وجلس الشيخ عيد أبوجرير ليرحب بنا وليلتفت إلى الجالسين ليتعرف على ضيوفه وجاء الدور على العبدلله، وكنت أرتدى جلبابا رماديا فيه مربعات رفيعة متداخلة وعلى رأسى طاقية بيضاء وسألنى: من أنت وماذا تعمل؟!.. وأجبت.. وبدأت أهدأ من مشاعر لقاء الأسد، وانقضت الزيارة الأولى لجزيرة سعود وللشيخ عيد أبوجرير، وفيما أسلم عليه وأقبل يده قال: يا جمال احرصوا على شيخكم فإنه «عيسوى المقام»! وسأشرحها فيما بعد وللشيخ عيد قصة حياة عمدت لتقصيها منذ كان صبيا يخلو مع نفسه فى عمق البادية وعلى شاطئ المتوسط بالقرب من العريش، وعنده عرفت منظمة سيناء العربية، وعرفت دوره فى الانتقال بأهل سيناء وخاصة البدو المصريين فى الشمال إلى مراحل متقدمة، من الوعى الوطنى العميق بالانتماء لوطن كبير اسمه مصر، وعنده التقيت ببعض أبطالها الذين أقضوا مضاجع جيش العدو المحتل لسيناء، والتقيت أيضًا بالشيخ سالم أبومسلم المعاذى الذى هو من قبيلة عنيزة من الجزيرة العربية، وهى القبيلة التى ينتمى إليها آل سعود، وقد ارتحل فرع أبومسلم من هناك إلى مصر وسكنوا منطقة الجوف الشرقية لأنها امتداد لمنطقة تحمل الاسم نفسه «الجوف» فى المملكة، وكان ارتحالهم بسبب خلاف وقع بينهم وبين بنى عمومتهم آل سعود.
ولنا استكمال لصفحة صدمة الأصفر.. إن شاء الله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة