فى "مشرحة زينهم".. الموت يسكن وعداد القتلى لا ينام.. الجدران تحمل أسماء الضحايا.. والداخلية دائمًا متهمة وعلم مصر يرفرف كراعٍ رسمى للمشهد.. المغسل يصرخ: حياتى كلها سواد والله يصبر أهالى من غسلتهم

الثلاثاء، 10 فبراير 2015 03:24 م
فى "مشرحة زينهم".. الموت يسكن وعداد القتلى لا ينام.. الجدران تحمل أسماء الضحايا.. والداخلية دائمًا متهمة وعلم مصر يرفرف كراعٍ رسمى للمشهد.. المغسل يصرخ: حياتى كلها سواد والله يصبر أهالى من غسلتهم مشرحة زينهم
كتبت سارة علام

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هنا مشرحة زينهم طريق مشبع بالموت، عداد قتلى لا يستكين ولا ينام، أرقام الضحايا الكثيرة تعده دائما بالمزيد، عداد القتلى لا يحب أن يتهم بالتعطل عن العمل، فيضرب كل يوم أرقامًا جديدة، عداد القتلى فى مصر يسابق غيره فى بلاد أخرى مجاورة، عداد القتلى فى مصر يكتب أرقامه لأسباب عديدة، شارك العبث فى صنع أهمها، فاستقبلت أمس جثث شهداء حادث استاد الدفاع الجوى، وهى لا تكف عن حصد المزيد.

فى الطريق إلى المشرحة، مستشفى بروك للحيوان، الحيوان فى منطقة زينهم والإنسان سيان، ينال كل منهما حظه من الموت، دون أن يسأل عما ناله من الحياة، القدر رتب علاج الحيوانات وتشريح الجثث متجاورين، لتشعر بالمساواة فى بلد لا يساوى بين سكانه إلا فى سهولة موتهم.

مشرحة زينهم زرقاء، تكتسى حوائطها بالأزرق كملابس السجن، كوطن هو سجن كبير، يشيع شبابه القتلى، أو يقتل شبابه الأحياء بالموت البطئ.

المشرحة الأشهر، التى تقع فى السيدة زينب، وتحديدًا فى منطقة "زينهم" مشرحة تاريحية تأسست عام 1932، ومر عليها آلاف الجثث، فاختارت لنفسها الاسم "زينهم"، وكأن الأموات زينة الأحياء كلهم.

فى الزقاق الضيق المؤدى إلى المشرحة، رجال يدخنون الشيشة ونساء تشرب الشاى، وبائع سندوتشات عجوز نصب عربته بجوار القتلى، بعدما صار الموت فعلًا عاديًا فى حياة المصريين، الحاج سيد بائع السندوتشات، يقول إنه جاء هنا بعد الثورة مباشرة، اضطربت الأوضاع الاقتصادية فى مصر، فلم يجد إلا اطعام أهالى القتلى المنتظرين طريقة للتغلب على متاعب الحياة، يقول سيد، إن أصعب أيامه هنا على الإطلاق كان يوم فض رابعة العدوية، رغم كثرة العمل لكثرة المترددين على المشرحة إلا أن صوت الصراخ ما زال فى أذنه حتى اليوم، صراخ كثيف من قتلى الإخوان وقتلى الشرطة، الكل هنا ضحاياـ

أمام المشرحة أيضًا، مسجد صغير يصلح للصلاة على الموتى، ويقدم أيضًا خدمات تكفين ونقل غير القادرين، بينما يترك الحانوتى مكتبه مفتوحًا ليغسل ضحاياه أو يستقبل الثكالى من أهالى المتوفين.

لا يفرق الحاج سيد بين أهالى المتوفين، ففى بعض الأيام يأتى أهالى ضحايا الطرق، والمشكوك فى موتهم فى المستشفيات، وينتهى كل حادث بالانقسام إلى فريقين متصارعين دون سبب واضح، قد يتطور العراك على المتسبب فى الجريمة إلى مشاجرة بالأيدى، وقد يستتب الأمر ويأخذ الناس قتلاهم ويرحلون.

كانت ليلة سوداء، يحكى الحاج سيد، عن ليلة أمس، ليلة استلام جثث الألتراس الـ19 بعد أحداث الاستاد، ثار الشباب وهاجوا وتشاجروا مع المصورين والصحفيين، ورفضوا التصوير، كان الناجون من الموت الأكثر غضبًا يقول، لا ينزعج الحاج سيد من لقاء أهالى القتلى يوميًا، بعد أن صار إطعامهم وسيلته للحياة.

أمام الحاج سيد يجلس "علاء مشمش"، حلاق ومغسل، ينتظر حضور المزيد من الجثث ليغسلهم ويسترزق، ويحكى عن ليلة أحداث بورسعيد، التى اضطر فيها لتغسيل ثلاث جثث معاً بسرعة كبيرة حتى يتمكن من إنجاز العدد المطلوب ومساعدة الشيخ "سعيد"، مغسل المشرحة الأساسى فى إنجاز مهمة تغسيل 77 شابا.

الشيخ سعيد، يرتدى ملابس العمل، حذاء من البلاستيك، وزى كحلى كتب عليه مغسل مشرحة زينهم والطب الشرعى، الشيخ سعيد بلحيته البيضاء وسنوات عمره التى تتجاوز الستين يرفض الكلام، يقول بصوته المتهدج كله خراب وسواد، الله يصبر أهاليهم، الليل كله قضيته فى تغسيلهم.

على جدران المشرحة، يكتب أصدقاء القتلى أسماء أصحابهم كتلك التى تكتب على الجدران للذكرى، فتجد أسماء كريستى ومحمد الجندى الذين راحا ضحية الداخلية، حتى الداخلية نفسها لم ينس الشباب أن يسجلوا اسمها على الحوائط، وكأنها سبب رئيسى للحضور إلى هنا.

أصدقاء القتلى يحكون حكايات الموت، شاب من ألتراس الوايت نايتس، بعينين وارمتين يحكى لصديقه، كيف فر من القفص الحديدى؟، يقول كان تحتى العشرات من زملائى، حتى أن فتاة استنجدت بى، فلم أتمكن من إغاثتها، هربت من القفص لأنى رفيع بينما حشر أصدقائى الأضخم حجمًا وماتوا خنقًا، أو دهسًا تحت الأقدام.

خلف الشاب الناجى من الحادث، شيخ عجوز يلقى عظة فى الباقين عن الموت، يأمرهم بانتظار كلمة الله فعنده الخلاص من كل ذلك.

وعلى المشرحة نفسها، علم مصر تحته أسماء قتلى آخرين، والداخلية متهمة أيضاَـ وروائح البخور تعم المكان تحاول أن تغطى على رائحة مادة الفورمالين القوية والنفاذة التى تعمل على حفظ جثث الموتى.

فى المشرحة ممر، معتم مغبر إذا استطعت اجتيازه ستجد نفسك أمام ثلاجات قديمة على الجانبين، تتسع كل منها لأربع جثث إضافة للثلاجة الاحتياطية الكبيرة التى يحتفظ فيها بالجثث التى تبقى لفترات أطول بإجمالى 120 جثة فى كامل المشرحة. ومن هنا تجد غرفتين للتشريح وغرفة لتجهيز الجثث قبل تسليم الجثث لأصحابها، يقول موظف فى المشرحة يرفض الإفصاح عن اسمه، أن قوانين المشرحة تتيح حضور ممثلين عن القاتل والقتيل عملية التشريح، وفى الأحداث الكبيرة عادة يحضر أهالى القتلى وأصدقائهم للاطمئنان على عدم سرقة أعضاء من الجثة. مشيرا إلى أن الأصل فى التشريح أن يتم فى وجود أهل القتيل كشاهد على التشريح، بالإضافة لأهل القاتل، فى حال معرفته، للتأكد من الشفافية.

تخرج من المشرحة، فترى الألتراس قد قرروا الرحيل فجأة، بينما يصرخ أحدهم ويقول" أنا مش همشى غير لما أعرف صاحبى فين، يحاول الباقون إقناعه، يصرخ أكثر صاحبى مطلعش، صاحبى مطلعش.

يمشى فى النهاية على مضض، وهو لا يعرف مصير صاحبه بين مشرحة لا تتوقف عن زيادة أعداد زوارها، أو مستشفى تضمد جراح المباراة ولا تضمد أثار الموت من الذاكرة أبدًا.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة