«If you want to master any language, you first have to master your own language»
أى «لو أنك أردت التمكن من أى لغة فعليك أولاً أن تتمكن من لغتك الأم».. كانت تلك هى العبارة الأولى التى علمتها لى مدرستى الأمريكية فى سنوات تعليمى الأولى فى مدرستى الأمريكية، ولهذه المعلمة التى لم تكن تتحدث العربية أدين بحبى واحترامى للغتى العربية، ثم أتى بعدها آخرون علمونى أن لغة الضاد لغة قيمة، ليس فقط لأنها لغة القرآن، لكن لأنها لغة تحمل موسيقى، وقدرات على التعبير والتنوع.
واللغة- أى لغة- هى كائن حى، أى أنها تتأثر بزمنها، وتتطور، فتكبر وتنمو، أو تتقهقر فتهرم وتمرض وتموت، فكم من لغات عرفتها البشرية ماتت لأن أصحابها لم يستطيعوا أن يحافظوا عليها ويطوروها! ومن هنا يأتى السؤال: هل لغتنا العربية بالفعل قاربت على الاندثار لأسباب عديدة ليس هنا مجال الحديث فيها، لأنها من صميم عمل أهل الاختصاص؟، لكننى هنا أتحدث عن أمر يخص العامة فى الشوارع قبل الخاصة، لأننى لا أتحدث عن اللغة العربية بمفهوم زمن سيبويه، أو حتى زمن طه حسين، والعقاد، لكننى أتحدث عنها الآن فى هذه اللحظة التى نعيشها، فالأمر صار جد خطير ليس دفاعًا عن لغة القرآن، لكن قبلها هو دفاع عن بقائنا كشعب واحد يستطيع أن يتفاهم بنفس اللغة.
أما سبب كل هذه المقدمة فهو أن معرض الكتاب هذا العام قد سمح للكثيرين بعرض أعمالهم الأدبية على نطاق جماهيرى واسع، وكان بينهم شباب كثير، وهو شىء محمود أن يتجه الشباب لخلق حالة أدبية وثقافية نفتقر لها.. كلام عظيم مقدرش أقول حاجة عنه، وكان من بين هذه التجارب ما هو جيد، أو محاولة للجودة، وأخرى غير ذلك، وتلك سمة الحياة، لكن المشكلة الكبرى أن من حظى بمبيعات أعلى، وزخم وحضور أكبر لم يكن الأفضل بل للأسف كان أحيانًا الأسوأ، ودعنى أطرح عليكم مثالًا لما أنوه إليه.. زاب ثروت، اسم قد لا تكون تعرفه، فجأة صار حديث المدينة على مواقع التواصل الاجتماعى، لأن كتابه بعنوان «حبيبتى» حقق فى أول أيام بيعه فى حفل التوقيع 15 ألف نسخة، وهو رقم كبير جدًا مقارنة بغيره حتى لكبار الكتاب.
لا تتعجل الحكم، وتسعد بالنتيجة، وهى أن المصريين فجأة صاروا يقرأون، وأن هذه ظاهرة إيجابية، دعونى أولاً أعرفكم على الكاتب الفذ، فهو مغنى راب يعرفه كثير من الشباب، وظهرت عليه أعراض الكتابة، فكان «حبيبتى» باكورة إنتاجه، وسبقته إنتاجات أخرى على نفس المستوى، وتلك عينة من كتابة «زاب»، فاسمحوا لى أن أنقل لكم مقتطفات من الكتاب فقد كتب يقول- ملحوظة، الكلام المكتوب لاحقًا منقول بالحرف من كتاب «حبيبتى» لكاتبه زاب ثروت:
«كان نفسى أوى أشرب بيبسى، بس أنا عاملة دايت، دى أول مرة مشربش بيبسى، من يوم ما قابلتك، يوم ما قابلتك عند الكشك اللى جمب الجامعة.... آه الجامعة، كنت لابس سويتشيرت أسود على بنطلون أسود وكوتشى أسود... ثوانى بابا ينادى... خرا عليك وعلى حبك، قالت هذه الكلمة بكل كبرياء وعزة نفس، وألقت مشاعرها ورى ظهرها وكملت حياتها».
عفوًا للأسلوب ولأخطاء الإملاء، فهى تخص صاحبها زاب ثروت، وهذه مجرد عينة من أقل ما لديه من لغة وتعبيرات، وقد باع صاحبه 15 ألف نسخة فى أول يوم لطرحه، وحين وجد بعض هجوم على مواقع التواصل رد بعجرفة وبغرابة تناسب أسلوبه: «أنا بعبر عن كلام الشارع... واللى مش عاجبه يكون لجوز ودانه قالع»، ولا أعرف معنى كيف «نقلع جوز ودنا»! على كل حال باعتبار أنى من بين آخرين مش عاجبهم.
وعود على بدء، نعم، اللغة كائن حى يتطور مع الزمن أو يذبل، وبقدر ما خلقت مواقع التواصل الاجتماعى من فضاء مشترك بقدر ما كشفت عورات الحالة اللغوية لدينا، وبنفس القدر أوحت للكثيرين بأن الكتابة شأن هين، وشاركها فى هذه الجريمة كثرة المواقع الإخبارية على الإنترنت التى صارت تبحث عمن يكتب مقالات دون التقيد بمهنة أو موهبة أو حتى معايير لغوية أو حد أدنى من القيمة، بل صارت قلة الأدب، والتجاوز اللفظى هو المعيار، المهم أن نعبئ صفحات وصفحات. كل ذلك تضافر مع تعليم دون أى مستوى فى العالم، وإعلام ما أنزل الله به من سلطان فى المعنى والجوهر وتدنى اللغة، فخلق عديد من الظواهر الفنية قبل الأدبية فصارت الأغنيات مهرجانات، ثم ها هى المهرجانات تنتقل للأدب من خلال الأخ «زاب» وآخرين، فهو ليس وحده فى المضمار.
اللغة كما سبق أن ذكرت كائن حى يتطور، ويتغير بتغير الزمان، وعلينا الإقرار بأن لكل جيل لغته، لكن حين تصل لغة الأدب لمستوى الأخ «زاب» مهما كان له من مريدين، فتلك ظاهرة كارثية، فنعم نحن نتمنى لشبابنا وكهولنا، ولكل الشعب أن يكون شعبًا قارئًا، لكن إذا كانت القراءة والكتابة ستكون بهذه الضحالة والفجاجة والسوقية فعلى عقلاء هذه الأمة- إن كان بقى فيها أحد منهم- أن يجمعوا أمرهم ويسرعوا فى دراسة الأمر لأنه جد خطير.
أدرك أن الحديث عن الأدب والكتاب فى الحالة المصرية قد يبدو للبعض ترفًا، لكنه ليس كذلك، فكل الخيوط تؤدى لبعضها، وبالتالى لاضمحلال شديد ولبجاحة مفرطة لدى ناشرى الاضمحلال، وإن كان ماركيز أديب أمريكا الجنوبية العظيم قد كتب روايته الخالدة «الحب فى زمن الكوليرا»، وحصل بها على «نوبل»، فيبدو أننا فى مصر ننتظر «الحب فى زمن الكُلة»، ولا حاجة لنا بنوبل ولا غيره، فيكفى أن تكون زاب ثروت.