وعندما جاءت زجاجة النبيذ لم تكن قاتمة اللون كسابقتها، بل كانت على عكس ذلك تماما، فقد كانت شفافة تظهر السائل الشفاف بداخلها، وإن كان لونه يختلط بصفرة خفيفة فيما بدت الزجاجة فى حجم زجاجة بيرة «ستيلا» الكبيرة فى بار «الربح البسيط»، كما أن عنقود العنب بدا فى أسفل الرسم المحفور على الزجاجة كما لو كان مرسوما باللون الأسود، وبنفس اللون وفوق عنقود العنب كان هناك ثور يجر عربة خشبية بعجلتين وضع عليها صندوق كبير بالنسبة لحجم العربة، فيما كتب بالخط الكبير «أديجا جراندى» وتحتها وبخط صغير رفيع كتب «فينهو دى ميسا برانكو»، وفى هذه المرة قررت ألا أدع «ألبرتو» يشرب أكثر منى، فصببت له كأسا، فابتسم لى شاكرا، فرفعت أنا الزجاجة ودسست عنقها فى فمى ولم أنزلها إلا فارغة، فصاح «ألبرتو» فى نشوة مهللا فرحا بما فعلت وهو يقول إن علينا الآن أن نأكل بعض الساندويتشات قبل أن نشرب الزجاجة الثالثة، وأنه سوف يطلب لنا ساندويتشات «البريجو» من لحم البقر المشوى، وليس ساندويتشات «الفرنسيسنيا» و«البيفانا» من لحم الخنزير المشوى، لأنه يعرف أنى مسلم ولا آكل لحم الخنزير، كما أنه هو أيضا لا يأكل لحم الخنزير.
وعندما جاءت التوأم التى ترتدى المينى جيب بساندويتشات «البريجو» من لحم البقر المشوى، كانت تحمل معها أيضا زجاجة شفافة من نبيذ «أديجا جراندى»، كما وضعت أمامنا بعض المعجنات الأخرى التى قدمها لى «ألبرتو»، فهذه «باستييس دى بيليم» وهذه « باستييس دى ناتا» وهى فى الأصل من «لشبونة»، أما «أوفوس موليس» فهى من «أفيرو»، لم أعد أذكر مقدار ما شربناه من النبيذ طوال هذه المدة التى كانت تنبعث فيها موسيقى وأغانى «الفادو» الشجية الناعمة من صندوق خشبى فى أحد الأركان، وبالطبع فلم أكن أفهم معنى كلمات الأغانى، إلا أن الزبائن، وأظن أن معظمهم من البحارة، كان بعضهم يتمايل مع الموسيقى أو ينهض أحدهم ليضع قطعة معدنية فى شق ضيق فى صندوق الموسيقى ويتخير الأغنية التى يريد أن يسمعها، لم أكن قد رأيت مثل هذا الصندوق فى حياتى قبل ذلك، وأظن أن ليشبونة، تحديدا بار «دوس جيميوس»، تعرفت على الصندوق الموسيقى، وكيف يعمل عندما قام «ألبرتو» وأخرج من جيبه قطعة معدنية فى حجم شلن الفضة المصرى، وقام ووضعها فى شق فى الصندوق، وما أن بدأت الموسيقى حتى اندفع «ألبرتو» فى الرقص وهو يمسك بزجاجة النبيذ الشفافة التى كنا نشرب منها سويا منذ لحظات، فيما كنت أنا أغالب ذلك الدوار الخفيف فى رأسى، ربما بفعل النبيذ الذى كنت أذوق طعمه لأول مرة فى حياتى فبدا لى «ألبرتو» نشيطا ومبتهجا وهو يرقص وسط تصفيق كل الموجودين فى البار تقريبا على إيقاع اللحن الجميل.
كانت مفاجأة للجميع أن انضمت إلى «ألبرتو» فى رقصته التوأم التى كانت ترتدى البنطلون الجينز، كما لو كانت قد تخلت عن تحفظها وبدت كما لو كانت تسبح فى فراغ البار المشبع بالدخان وأنفاس السكارى، كان رقصها رشيقا وممتعا وشهوانيا بشكل أو بآخر عندما كانت خصلات من شعرها تتطاير وتلتف حول رقبتها فتزيحها بأصابعها فى نعومة، بدأ «ألبرتو» ينحنى فى رقصته مقتربا من الأرض ثم ينتفض فاردا جسده مرة أخرى فاردا ذراعيه على اتساعيهما فتقرب التوأم صدرها من صدره دون تلامس فيندفع قافزا إلى الأعلى فاردا ذراعيه، كما لو كان يريد أن يطير، وكانت هذه الحركات التى يؤديها «ألبرتو» فى براعة تدفع البعض إلى التصايح وإطلاق التصفيرات التى تفضح نشوة الجميع وهم يرددون كلمات الأغنية التى لم يكن معناها مفهوما بالنسبة لى: «أى نوت فيم إسكونديندو أه ديا.. أوو سوم دو تروفاو كيو أننسيا أوما تيمبيسفادى»، ومع أنى لم أفهم المعنى، فإننى كنت أستطيع ترديد الكلمات بسهولة لدرجة أنى بقيت أحفظ جزئا كبيرا منها.. وللمذكرات بقية.