نحن ندرك جميعا أننا دولة مركزية عتيدة فى هذا الشأن، فمنذ وحد مينا القطرين حتى يومنا هذا، مصر بلد مركزى السلطة، مركزى التنفيذ مركزى الهوى، صحيح أن هناك دائما كانت بعض محاولات بين الحين والآخر لكى تبدو أن سلطة الحكم ليست مركزية، لكنها دائما محاولات شكلية وليست بنية حقيقية لتقليص حجم المركزية وآفاتها، وكثيرا ما يظن عامة الناس أن المحافظ كما يقولون هو رئيس جمهورية محافظته ولكن الواقع والحقيقة غير ذلك، فالقوانين تكبله بل هو مجرد موظف فى وزارة الحكم المحلى بصلاحيات محدودة مكبلة مما يجعل من القاهرة التى يسكن ويحكم منها الرئيس هى المكان الوحيد فى مصر الذى يحكم كل محافظاتها، ولست هنا فى معرض الحديث عن المحليات وقوانينها والمصيبة التى تصيب بها مصر من الشمال للجنوب ومن أقصى شرقها لأقصى غربها، فذلك موضوع يطول شرحه ويجب الاستفاضة فيه، ولكن حديثى اليوم ينصب على الإعلام الذى يتحمل جزءا من وزر ما يحدث فى مصر فيما يخص المحافظات البعيدة عن القاهرة وأهلها الذين هم أهلنا، ولنا فى الحادث الأخير الذى حصد أرواح عشرات من شباب الصعيد على يد داعش فى ليبيا مثال حى يشير بأصابع اليد العشرة إلى إعلام قاصر جاهل لا ينتفض وتتحرك كاميراته بعيدا عن القاهرة إلا فى حين يكون هناك مأتم جماعى.
جزء كبير من مهمة الإعلام الحديث هو ربط الشعب الواحد بعضه ببعض وليس فقط ربط العالم بعضه ببعض، ولكن نظرة على أسماء حتى البرامج والمحطات التليفزيونية وحتى الصحف يجعل المراقب يتأكد أن القاهرة ليست فقط هى التى تحكم من قصر الاتحادية، ولكنها أيضا تحكم كل الكاميرات والأقلام والميكروفونات، فـ«هنا القاهرة، وبتوقيت القاهرة، وهنا العاصمة، والقاهرة والناس، ومن القاهرة، ونادى العاصمة، ومحطة العاصمة، وجريدة القاهرة» هذه مجرد أمثلة لسيطرة اسم القاهرة وفكرها وسطوتها على الإعلام، وبالتالى فنحن أهل العاصمة نشعر بأننا مركز الكون المصرى على الأقل، وننظر لمصريين مثلنا يسكنون نفس الأرض كسياح، فهم فقط مجرد صور شخصيات فى الأفلام أو المسلسلات، وعادة هى صور مشوهة للحقيقة والواقع الذى يعيشه هؤلاء المهمشون سياسيا وثقافيا وإعلاميا.
فى السنة الأولى للثورة كانت هناك حلقة نقاشية تليفزيونية اشتركت فيها مع مجموعة من الشباب الذين كانوا يمثلوا الثورة، وكان خلافى معهم حول نقطة واحدة وهى: أنه حين تصل الثورة ومعناها لأقصى قرية فى الجنوب أو الشرق أو الغرب وقتها فقط سأقر بأننا ثورة مصرية، أما غير ذلك فتلك ثورة العاصمة وليست مصر، منذ سنوات قليلة بدأت قناة دريم تقدم برنامجا عن صعيد مصر كان يعده ويقدمه صحفى زميل مهموم ومهتم بشأن الجنوب وهو الأستاذ أبو الحسن محمد الصحفى بالأهرام، وكنت أجد فيه بذرة حقيقية لبداية وضع مصر على الخريطة الإعلامية، ولكن سريعا ما توقف البرنامج فتأكد لى ديكتاتورية القاهرة التى لا تقبل بوجه آخر لمصر على الساحة غيرها.
يا إعلام مصر مكتوبًا ومسموعًا ومرئيًا.. قرى مصر ونجوعها ليست مجرد خبر لجريمة ثأر أو مصالحة طائفية أو مأتم كبير أو موقع أثرى، قرى مصر ونجوعها وجميع محافظاتها هى بشر مهمشون أكثر حتى من عشوائيات العاصمة، رغم أنهم حصى الأرض وترابها.
لو أردنا حقًّا النجاة من بعض همومنا وتقليص حجم مشاكلنا بما فيها مشاكل العاصمة ذاتها فلا سبيل إلا أن تتنحى القاهرة سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا عن موقفها الديكتاتورى وتصدرها المشهد، فقد حان الوقت فعليًّا أن نقول كفاية هنا القاهرة، ودعونا نقل هنا شلاتين أو هنا قنا أو هنا السلوم، فالعدو يقبع على الأطراف، والمهمشون لن يصمدوا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة