كنت أستطيع ترديد الكلمات بسهولة، لدرجة أنى بقيت أحفظ جزءا كبيرا منها كما كنت أحفظ أغانى فيلم «سانجام» الهندى، فجأة صرخ رجل عجوز: «فاندانجو»، تصايحت أصوات الزبائن مرددين نفس الكلمة: «فاندانجو»، توقفت الموسيقى المنبعثة من الصندوق وحل صمت تام على المكان للحظات، هنا كفت التوأم عن الرقص فكف «ألبرتو»، وعدل وقفته فى مواجهة التوأم التى عدلت وقفتها منتصبة فى مواجهته، ثم عادت الموسيقى هذه المرة سريعة ومتدفقة وسط تصفيق الزبائن المنتشين على إيقاع الموسيقى، ثم بدأ الاثنان معا بالرقص والنقر بالأقدام بشكل موحد، ثم توقفت التوأم واستلم «ألبرتو» الرقصة وحده وأخذ بالنقر بالأقدام بينما بقيت التوأم متفرجة وهى تتابعه بنظراتها إلى أن يحين دورها فتستلم الرقص والنقر بأقدامها منفردة بينما بقى «ألبرتو» متفرجا عليها وتكرر هذا عدة مرات فيما بدا أن ذلك يتم بشكل تنافسى بينهما، إلى أن صرخ العجوز فجأة: «إيفا يا فينسكدور» وردد الجميع: «إيفا يا فينسكدور» ففهمت أن التوأم هى التى ربحت المسابقة، وكان هذا الحكم عادلا كما بدا لى فقد كانت التوأم تجيد توافق حركة قدميها والنقر بهما على الأرض أكثر من «ألبيرتو» الذى بدت حركته فى بعض اللحظات مهتزة بعض الشىء ربما بفعل النبيذ، فوجئت بالتوأم وهى تحتضن «ألبرتو» وتطبع على جبهته قبلة فتصايح الزبائن مهللين، وتهالك «ألبرتو» على مقعده فى مواجهتى، وسألنى عن زجاجة النبيذ التى كانت هنا، قلت له إن الزجاجة كانت معه وهو يرقص، فقال «ألبرتو» أنها لا بد أن تكون وقعت من يده، وبإشارة بأصبعه فهمت منها أنه يريد منى أن أناوله الكأس الذى كنت قد شربت نصفه فناولته إياه فرفعه إلى فمه وجرع السائل المتبقى كله دفعة واحدة ثم أشار لى بأن أنظر خارج البار عبر النافذة الزجاجية التى كانت تشغل نصف الجدار المطل على البحر، وهو يسألنى: «هل ترى ذلك؟».
وعندما نظرت فى الاتجاه الذى أشار لى عليه رأيت جسرا ضخما يصل شاطئ نهر «تاجوس»، وبدا الجسر معلقا فى الفضاء وقلت أن هذا جسر ضخم ولم أر مثله فى حياتى، فقال «ألبرتو» بأن هذا الجسر هو سبب الاحتفالات الشعبية فى لشبونة، وأن هذا الجسر الضخم المعلق تم افتتاحه بالأمس فقط، وهو يربط لشبونة و«كونسيليو ألمادا»، لم تكن الاحتفالات إذن من أجل فريق كرة القدم الذى حصل على المركز الثالث فى بطولة كأس العالم بل كانت بسبب افتتاح جسر «بونتى سالازار»، لا شك أن مبلغ النقود الذى دفعه «ألبرتو» ثمنا لما شربناه من نبيذ وأكلناه من ساندويتشات ومعجنات كان كبيرا، فكرت للحظة أن أمد يدى فى جيبى لأخرج بعض الدولارات التى كنت أحتفظ بها فى جيب الصديرى البلدى الذى صنعت أمى لجيبه سوسته لأخفى فيه النقود حتى لا يسرقنى أحد، ويبدو أن «ألبرتو»، فطن إلى ما فكرت فيه، فجذبنى من ذراعى فى رفق ليوقفنى طالبا منى أن أتبعه، تبعته حتى النصبة الرخامية التى يقف خلفها أبو التوأمين وأعطاه النقود ثم التفت إلى وهو يدس فى جيب قميصى بعض النقود وهو يقول لى: «هذه مائة سكودو قد تحتاجها فى العودة للسفينة لو تهنا عن بعضنا نتيجة الزحام فوق جسر بونتى سالازار، الآن حان وقت المشاركة فى الاحتفالات»، ليس من المعقول أن يظن أحد مهما كانت درجة تحصيله العلمى أن مدينة «لشبونة» لا يمكن أن تتسع لكل هؤلاء البشر الذين يحتفلون لليوم الثانى على التوالى بافتتاح جسر «بونتى سالازار» الحديدى العملاق الذى كنا نسير عليه أنا و«ألبرتو» وسط أمواج البشر يرقصون ويصفقون ويلوحون بالأعلام ذوات اللونين الأحمر والأخضر، لم أكن بالطبع أعرف إلى أين سوف نصل، وللمذكرات بقية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة