أديت العمرة مرتين، وحججت مرة واحدة، ولكل مرة ذكرياتها.. وعندما شاهدت الكعبة المشرفة لأول مرة شعرت بالرهبة وذقت طعم الجلال والهيبة ورأيت السماء شديدة العلو بالغة الصفاء، وفيما كنت أطوف ثم كنت أسعى لم ترهقنى الحركة ولم يتعبنى الزحام والتدافع، وفى الحج راودنى استياء عابر بسبب منظر الدماء والشعر وبقايا الطعام، وقلت فى نفسى ولنفسى: من سينظف هذا كله، وما أن استرسلت فى الخاطر حتى برقت السماء وأرعدت، ثم انهمرت الأمطار سيولا تكنس وتغسل، وعندها نظرت للسماء وتملكنى شعور بالسخرية من نفسى وخواطرى وبدون كلام قلت لهما: كفاية بقى.. للبيت رب يحميه.. وها هو يرعاه ويميط عنه الأذى. وفى إحدى العمرتين اضطررت لأن أعيد الطقوس كلها ثانية، لأننى انفعلت وعلا صوتى ووجهت كلاما قاسيا لرجل ممن هم مكلفون على ما يبدو بالنظام فى الحرم المكى.. إذ واعدت زوجتى أن من يفرغ من صلاته أولا ينتظر الآخر بالقرب من زمزم، وفيما هى تنتظر وأنا قادم متجه إليها شاهدت الرجل وقد «برم» مصلى على شكل حبل غليظ وصار يهجم على النساء الجالسات ليطردهن من المكان صائحا «قومى يا حرمة»، ثم يهوى بما فى يده على ظهرها، وبسرعة صحت فيه: لا تضربها.. حرام عليك. ألم تسمع قول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: «لو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك»، وإذا به ينهرنى فأغلظت وانصرفت معتقدا أن العمرة «باظت» وأعدت الطقوس كلها ثانية!
وعند السعى تذكرت أمنا الكبرى أو جدتنا السيدة هاجر أم إسماعيل، ومع الناس فى الفندق جلست أشرح كيف أن امرأة مصرية هى التى من وراء السعى بين الصفا والمروة، وأن من يتدبر حكايتها، وكذلك حكاية أمنا السيدة مارية أم إبراهيم ابن النبى، يعرف كم هى المرأة المصرية مباركة طيبة صابرة تتحمل الأذى ولا تئن. وحكيت لصحبة الرحلة ما جاء فى سفر التكوين فى التوراة، وكيف أن النص التوراتى أشار مرتين إلى أنه من ابن «الجارية» أى إسماعيل سيجعل الله أمة عظيمة. ففى المرة الأولى هناك إشارة إلى أن سارة قالت لإبراهيم وقد أكلتها الغيرة من هاجر التى أنجبت قبلها: خذ الجارية وابنها بعيدا من هنا، ولم يعجب كلامها إبراهيم وأراد أن يطلقها، ولكن ملاك الرب نزل وأمره أن يفعل لأن الله سيجعل من ابن الجارية أمة عظيمة، وبالفعل أخذها إلى مكة حسب الرواية الإسلامية، وإلى بير سبع حسب الرواية التوراتية!
أما المرة الثانية فكانت فى المكان القفر الموحش الخالى من الزرع والضرع والماء، عطش الطفل وصار يبكى ومضت أمه تهرول بحثا عن الماء وتصرخ، ونزل ملاك الرب ليقول لها لا تصرخى لقد سمع الله بكاء الطفل وسوف يأتيه الماء ويجعل الله منه أمة عظيمة.. هكذا فى التوراة، وهنا فهمت النص على أنها البشارة التوراتية لسيدنا محمد، لأن إسماعيل لم يصبح أمة عظيمة إلا ببعثة النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وفى مكة والمدينة شغلنى لحد كبير أمر الأماكن التى عاش فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ربما بحكم دراستى للتاريخ واهتمامى بالآثار وحبى للنبى، يعنى منزل السيدة خديجة الذى تزوجها فيه النبى، وأنجب فيه بناته وأبناءه منها وفى مقدمتهم السيدة فاطمة الزهراء، وكان الوحى ينزل عليه فيه أيضا!
ثم المكان الذى ولد فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ودار الأرقم بن أبى الأرقم.. وأماكن أخرى عرفناها من دراستنا وقراءتنا لتاريخ مكة والمدينة قبل البعثة النبوية وأثناء حياة الرسول وما بعد وفاته.. ولا أخفى أنه كان يشغلنى أمر لم أناقش أحدا فيه، ربما لأن المناسبة لم تتوفر، وهو معاداة الاتجاه الفقهى السائد فى المملكة لما هو تراث وأماكن أثرية، خشية افتتان الناس بها وانشغالهم بها عن الكعبة والحرم المدنى، بل واحتمال تقديسهم إياها.. إلى آخر الأطروحة التى أسس لها أحمد بن تيمية ونحا محمد بن عبد الوهاب منحاه فيها! إلى أن شاءت المصادفة أن أطالع ما أشبع فضولى حول مصير بعض الأماكن، وقد أشاع البعض أنها اندثرت وبنى موضعها أماكن لقضاء الحاجة وللوضوء، وهو أمر كان صعبا تحمله بكل المعايير.
المصادفة عندما تلقيت من سفير المملكة بالقاهرة، السيد أحمد قطان، بحثا موثقا عن هذه الأماكن، وفوجئت أن لأسرته دورا، إن لم يكن الدور الرئيسى، فى صون هذه الأماكن وتوقيرها، وقرأت عن الشيخ عباس قطان الذى تكفل بكل الإمكانيات المادية والفنية، وتحمل جميع الصعوبات!.. وفى ظنى أن كل مسلم محب للرسول صلى الله عليه وسلم وللسيدة خديجة ولآل بيت النبى، مهموم بمصير تلك الأماكن ويشغله سؤال: أين كان موقعها وإلى ماذا صار أمرها؟! وهل صحيح أن هناك من اجترأ وبنى على بعضها مراحيض وأماكن للوضوء؟!
وعن مكان ولادة النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فهو قد ولد فى فم شعب على، وهو الشعب مفرد شعاب الذى كان يسكنه بنو هاشم وفيه حاصرتهم قريش عند بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بنى فوق المكان مسجد ثم هدم لكثرة تبرك الناس به، وهنا تمنى الشيخ عباس قطان أن يصون المكان ويقيم فيه ما ينفع الناس فكان أن اشترى محتويات المكتبة الماجدية التى كانت للشيخ ماجد الكردى، وكان أن كافح حتى أخذ موافقة الملك عبد العزيز ليبنى مكتبة عامة فى المكان الذى ولد فيه الرسول، وتم البناء ونقلت الكتب إلى المكتبة التى حملت اسم «مكتبة مكة» التى استكمل أبناء مؤسسها العمل وسلموه لوزارة الحج والأوقاف. أما دار السيدة خديجة بنت خويلد رضى الله عنها.. أم المؤمنين التى تزوجها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهى قد ولدت فى الدار نفسها التى تقع فى زقاق الحجر بمكة المكرمة أو ما يعرف بزقاق الصوغ، وفى هذا المنزل نزل القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه أيضا ولد أولاد النبى إناثا وذكورا واستمر النبى ساكنا هذه الدار بعد أن رحلت السيدة خديجة إلى بارئها وإلى حين هجرته إلى المدينة المنورة.
وفى الوثائق التى تفضل بها السيد أحمد قطان، عرفت أن دار الندوة التى بناها قصى بن كلاب بحوالى 200 سنة قبل الهجرة، وكان يجتمع فيها وجهاء قريش وفيها كان اجتماعهم للقضاء على الدعوة الإسلامية بقتل النبى، ولكن الله نجاه فهى تقع الآن ضمن الأروقة والمطاف فى الجهة الشمالية الغربية، وهناك باب يحمل اسم باب الندوة، ثم إن أحد الجبلين «الأخشبين» اللذين عرض جبريل على النبى أن يطبقهما على الكفار هو جبل «قعيقعان» وهو الجبل الضخم المشرف على المسجد الحرام من الشمال والشمال الغربى، والممتد من حارة الباب إلى الشامية، ويسمى اليوم بأسماء عدة حسب إطلاله على مختلف الأحياء، وارتفاعه نحو 410 أمتار من سطح البحر. أما الجبل الآخر فهو جبل «أبوقبيس» الذى نراه مشرفا على المسجد الحرام من مطلع الشمس ويصب منه شعب على بينه وبين الحتدمة، وكان يسمى فى الجاهلية الأمين لأن الحجر الأسود كان مستودعا فيه. أما دار الأرقم بن أبى الأرقم التى كانت مركزا سريا للدعوة الإسلامية عند بدايتها، فتقع على بعد 36 مترا من الصفا شرقا خارج المسعى، وفى سنة 171 هجرية بنيت الخيزران جارية المهدى العباسى مسجدا فى موضع تلك الدار، وقد تم هدمها لصالح التوسعة وتخليدا لذكراها، فإن أول باب فى المسعى بجوار الصفا سمى بباب دار الأرقم!
إنها أماكن عزيزة على قلب كل مسلم ومهمة لعقل كل من يهتم بتاريخ الدعوات الكبرى فى تاريخ الإنسانية، وجزى الله خيرا كل من اهتم بها وصانها وجعل من مواضعها أماكن للنفع العام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة